المجلد الثامن.
سُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا عِشْرُونَ وَمِائَةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَقَرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَأَذْعَنُوا اللَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَسَلَّمُوا لَهُ الأُلُوهِيَّةَ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُبُوَّتِهِ وَفِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ يَعْنِي : أَوْفُوا بِالْعُهُودِ الَّتِي عَاهَدْتُمُوهَا رَبَّكُمْ وَالْعُقُودِ الَّتِي عَاقَدْتُمُوهَا إِيَّاهُ، وَأَوْجَبْتُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ حُقُوقًا وَأَلْزَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَا لِلَّهِ فُرُوضًا، فَأَتِمُّوهَا بِالْوَفَاءِ وَالْكَمَالِ وَالتَّمَامِ مِنْكُمْ لِلَّهِ بِمَا أَلْزَمَكُمْ بِهَا، وَلِمَنْ عَاقَدْتُمُوهُ مِنْكُمْ بِمَا أَوْجَبْتُمُوهُ لَهُ بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَنْكُثُوهَا فَتَنْقُضُوهَا بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا بِهَذِهِ الآيَةِ، بَعْدَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعُقُودِ : الْعُهُودُ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ الْعُقُودُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَاقَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى النُّصْرَةِ وَالْمُؤَازَرَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ عَلَى مِنْ حَاوَلَ ظُلْمَهُ أَوْ بَغَاهُ سُوءًا، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْحَلِفِ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاقَدُونَهُ بَيْنَهُمْ.