يَقُولُ :(فَاجْعَلْ تَحَلَّلْ) بِمَعْنَى : تَحَلَّلْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، لاَ أَنَّ هُنَاكَ جَعْلاً مِنْ غَيْرِ التَّحْلِيلِ. فَكَذَلِكَ كُلُّ جَعَلَ فِي الْكَلاَمِ إِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى فِعْلٍ لَهُ اتِّصَالٌ، لاَ أَنَّ لَهُ خُطًا فِي مَعْنَى الْفِعْلِ.
فَقَوْلُهُ :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ إِنَّمَا هُوَ أَظْلَمَ لَيْلَهُمَا وَأَنَارَ نَهَارَهُمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُعَجِّبًا خَلْقَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَفَرَةِ عِبَادِهِ وَمُحْتَجًّا عَلَى الْكَافِرِينَ : إِنَّ الإِلَهَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ حَمْدَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، الَّذِي جَعَلَ مِنْهُمَا مَعَايشَكُمْ وَأَقْوَاتَكُمْ وَأَقْوَاتَ أَنْعَامِكُمُ الَّتِي بِهَا حَيَاتُكُمْ، فَمِنَ السَّمَوَاتِ يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْغَيْثُ، وَفِيهَا تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِاعْتِقَابٍ وَاخْتِلاَفٍ لِمَصَالِحِكُمْ، وَمِنَ الأَرْضِ يَنْبُتُ الْحَبُّ الَّذِي بِهِ غَذَاؤُكُمْ وَالثِّمَارُ الَّتِي فِيهَا مَلاَذِكُمْ، مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي فِيهَا مَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعُكُمْ بِهَا. وَالَّذِينَ يَجْحَدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِ ذَلِكَ لَهُمْ وَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ﴿بِرَبِّهِمُ﴾ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَأَحْدَثَهُ ﴿يَعْدِلُونَ﴾ : يَجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الآلِهَةَ وَالأَنْدَادَ وَالأَصْنَامَ وَالأَوْثَانَ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ شَرَكَهُ فِي خَلَقِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُمْ يُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْلَغَهَا مِنْ حُجَّةٍ وَأَوْجَزَهَا مِنْ عِظَةٍ، لِمَنْ فَكَّرَ فِيهَا بِعَقْلٍ وَتَدَبَّرَهَا بِفَهْمٍ.
وَلَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ.