وأما أخذ الأجرة على الإقراء ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء؛ فمنع أبو حنيفة والزهري، وجماعة أخذ الأجرة وأجازها الحسن وابن سيرين والشعبي إذا لم يشترط، ومذهب الشافعي، ومالك وعطاء جوازها إذا شارطه واستأجره إجاره صحيحة. قلت: لن يشترط أن يكون في بلده غيره، أما إذا لم يكن غيره فلا يحل له أخذ الأجرة لأن الإقراء صار عليه واجبا. وأما قبول الهدية ممن يقرأ عليه فامتنع من قبولها جماعة من السلف، والخلف تورعا خوفا من أنها تكون بسبب القراءة. وقال الإمام محيي الدين النووي: ولا يشين المقرئ إقراؤه بطمع في رفق يحصل له من بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالا أو خدمة، وإن قل ولو كان على صورة الهدية التي لولا قراءته عليه لما أهداها إليه. قلت: وحسن التفصيل كما قيل في القاضي لا يخلو إما أن يكون القارئ كان يهدي للشيخ قبل قراءته عليه أولا، فإن كان فلا يكره. قال الإمام النووي: وليحذر -يعني المقرئ- من كراهته قراءة أصحابه على غيره ممن ينتفع به، وهذه مصيبة يبتلى بها بعض المعلمين الجاهلين، وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته وفساد طويته، بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته بتعليمه وجه الله تعالى فإنه لو أراد الله تعالى بتعليمه لما كره ذلك، ولقال لنفسه أنا أردت الطاعة بتعليمه، وقد حصلت وهو قصد بقراءته على غيري زيادة علم فلا عتب عليه.
فإذا جلس ينبغي أن يكون مستقبل القبلة على طهارة كاملة، ويجلس جاثيا على ركبتيه، ويصون عينيه في حال الإقراء عن تفريق نظرهما من غير حاجة، ويديه عن العبث إلا أن يشير إلى القارئ بأصابعه إلى المد والوقف والوصل، وغير ذلك مما مضى السلف عليه. وينبغي أن يوسع مجلسه ليتمكن جلساؤه فيه لأنا قد روينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: "خير المجالس أوسعها" ١ وليقدم الأول فالأول، فإن رضي الأول بتقديم غيره قدمه؛ هذا الذي رأينا عليه الخلف من شيوخنا لا يفعلون غيره وأخبرونا بذلك عن شيوخهم مسلسلا، وروي عن حمزة أنه كان يقدم الفقهاء من طلبة العلم، فأول من يقرأ عليه سفيان الثوري. وكان أبو عبد الرحمن السلمي وعاصم يبدآن بأهل السوق لئلا يحتبسوا عن معايشهم. قلت: الظاهر أنهم كانوا يجتمعون للصلاة بالمسجد ثم يجسون بعد أجمعون جملة لا يسبق أحدا أحدا، وإذا كان كذلك فالشيخ عند ذلك مخير في تقديم أيهم.

١ رواه أبو داود في الأدب باب١٢، وأحمد في مسنده "٣/ ١٨، ٦٩".


الصفحة التالية
Icon