قال تعالى في سورة البقرة (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿٤٨﴾ ) وقال في نفس السورة (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿١٢٣﴾). جاءت الآية الأولى بتذكير فعل (يقبل) مع الشفاعة بينما جاء الفعل (تنفعها) مؤنثاً مع كلمة الشفاعة نفسها. الحقيقة أن الفعل (يقبل) لم يُذكّر مع الشفاعة إلا في الآية ١٢٣ من سورة البقرة وهنا المقصود أنها جاءت لمن سيشفع بمعنى أنه لن يُقبل ممن سيشفع أو من ذي الشفاعة. أما في الآية الثانية فالمقصود الشفاعة نفسها لن تنفع وليس الكلام عن الشفيع. وقد وردت كلمة الشفاعة مع الفعل المؤنث في القرآن الكريم في آيات أخرى منها في سورة يس (أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ ﴿٢٣﴾) وسورة النجم (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴿٢٦﴾).
حينئذٍ نقول أن الله سبحانه وتعالى عندما حلف ولا ينظر إليهم لكي يفرق بين جريمتين عظيمتين ولكن أحداهما أعظم جرماً من الأخرى من أجل هذا رب العالمين قال إياكم والرياء التنافس مشروع والتميز مشروع طبعاً هذا من أجل الترقي (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴿ ٢٦ ﴾ المطففين) ولكن كل ذلك مرهونٌ بالأخلاق وتقول الآية (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ) ما هو الخلق؟ الخلق السجية هذا مجبول على الصدق هو صادق بطبيعته هو لا يقدر أن يكذب هذا كريم بطبيعته هذا وفي بطبيعته لا يقدر أن يخون هي خلق-بفتح اللام- وخلق-بتسكين اللام-وخلق-بضم اللام- وأخلاق وخلاق كل هذا (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ) حينئذٍ كل الكلمات التي من نفس الجذر يعني الصفة التي فيك آلياً أنت صادق بطبيعتك أنت كريم بطبيعتك أنت عادل بطبيعتك فلست متكلفاً هذه أخلاق يعني صفة آلية كيف أن هذه الآلة تعمل بشكل طبيعي يعني كل آلة حولك الآن بالسيارة في البيت تعمل بوظيفتها عيناك هذه تعمل بوظيفتها ترى والأذن تسمع واللسان ينطق الخ هذه آلية هذه خلاقات فرب العالمين خلق عباداً الأخلاق فيهم سجية هؤلاء الناس الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً والذين يكتمون ما أنزل الله كله طمع دنيوي كله تنافس. هذا التنافس إما أن يكون تميزاً أو أن يكون حسداً وحقداً وطمعاً وجشعاً كل صفات الرذيلة. ما هو الفاصل بين التنافس الشريف الذي يعتبر تميزاً وعظمة وتطوراً ورقياً ورفعة وبين هذا التميز الذي يعتبر خسة ونذالة وجشعاً وأنانية؟ هو فقط الأخلاق.
قليلاً) فيها احتمالان في الإعراب محتمل أن نعربها مفعول مطلق يعني تمتيعاً قليلاً أي قليل وصف للمصدر أو نعربها ظرف زمان أي زمناً قليلاً. فإذن من حيث الإعراب تحتمل الحدث وهو تمتيعاً قليلاً وتحتمل الزمن زمناً قليلاً، وهو حذف الموصوف لأنه لو ذكر الموصوف لتحدد بشيء واحد لو قال زمناً أو تمتيعاً لحدد. حذف والآن يشمل الاثنين معناه يمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً فجمع المعنيين بالحذف، الآن اتسع واستفدنا أنه يمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً ولو ذكر لخصص الذي ذكره وأطلق الآخر. لو أراد أن يقول تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً، الحذف أغنى عن أن يقول تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً فشمل المعنيين وقال (نمتعهم قليلاً). بدل العبارة الطويلة حذف فتوسع المعنى (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (٨٢) التوبة) بدل أن يقول فليضحكوا ضحكاً قليلاً زمناً قليلاً وليبكوا بكاء كثيراً زمناً كثيراً حذف فجمع المعنيين وأحياناً يكون الحذف أبلغ من الذكر وقد يكون الحذف للتوسع في المعنى وأحياناً الذكر يكون للتخصيص مثل (هو يُكرم) إطلاق و (هو يكرم فلاناً) تحديداً. إذن حينما يحذف لا بد أن تدل (قليلاً) على المعنيين نمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً ولما تُعرب تُعرب باحتمالين، والحذف هنا جائز.
*في البقرة قال (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)) بضمير المفرد وفي لقمان بالجمع (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) فما الفرق بينهما؟
ها أنتم هؤلاء يا مسلمون في قضية ثانية واحد يهودي سرق درعاً هذا اليهودي استطاع أن يلبس الأمور بحيث يجعل الحق باطلاً والباطل حقاً وهي قصة طويلة معروفة عند بعض الذين قرأوا التفسير والقصة أن ناس من عرب المنافقين أسلموا إسلاماً ظاهرياً واحد منهم سرق وهو طعمة بن أبيرق فقال قومه للنبي ﷺ هذا ابننا ولا تتهمه فاجعلها على هذا اليهودي والنبي ﷺ يعرف أن اليهود يكيدون لنا كيداً وأن اليهود عداؤهم أبدي كما هو واقع التاريخ من زمن النبي ﷺ وإلى اليوم واليهود هذا شأنهم واقع وكأنه قدر القرآن قال قدر.
في المائدة طاعتين مستقلة طاعة خاصة لله وطاعة خاصة للرسول ﷺ و فيها كلمة زيادة ما جاءت إلا هنا هي واحذروا هذا الأمر المهم إلا في هذا المكان في سورة المائدة (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) أضاف كلمة واحذروا، قلنا الأولى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيما يبلغ به عن القرآن الكريم مجرد تبليغ هذا واحد (أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) بإضافات النبي ﷺ شرحاً وبياناً وإجمالاً وما إلى ذلك، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) لا هنا طاعة خاصة بالنبي ﷺ فيما شرعه عليه من سنن يعني النبي ﷺ كما تعرفون له صلاحيات التحليل والتحريم وحرام محمد وحلال محمد حرام وحلال إلى يوم القيامة وحينئذٍ كما أن الله أمر النبي أن يبلغكم بكلامه حرفياً ثم سمح له أن يشرح بعض أو يبين بعض معضلاته ثم في هذه الآية الثالثة النبي ﷺ له تصريف تصريف في الكتاب من حيث معناه وأسباب نزوله ومناحيه وبياناته وهذا علم أصول التفسير مليء في هذا الباب هذه (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) قال (واحذروا) لأن هذه قمة الجهد المبيَّن والمبيِّن في هذه الفقرة أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وحده أطيعوا الله فيما أمركم به من كتابه وأطيعوا الرسول باعتباره مشرعاً مشرعاً للسُنّة نحن من أين أتى علمنا؟ كتاب وسنة (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧) الحشر) هنا أضاف (واحذروا) هناك (أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) نفس المعنى أيضاً فيها سنة هناك لكن هنا أضاف (واحذروا) لماذا أضافها؟ هنا القرآن الكريم بكلمة احذروا يلفت أنظارنا إلى أهمية الانتباه إلى منظومة الشهوات التي ينزلق إليها الإنسان متى ما غفل عن ذكر الله.
القدامى بحثوا في هذه المسألة وقالوا حيث يتقدم ما يتضمن النفع يسبق النفع وحيث يتقدم ما يتضمن الضر يقدم الضر. (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) الأعراف) قدم النفع على الضر وقال قبلها (مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨) الأعراف) فلما قدم الهداية قدم النفع (مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي). وقال بعدها في نفس السياق (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) قدم النفع على الضر إذن مناسب هنا تقديم النفع على الضر لأن تقدّمها. في تقديم الضر: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) يونس) هنا قدم الضر وقبلها قال تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ (١١) يونس) هذا ضر، (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ (١٢) يونس) وبعدها قال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا (٥٠) يونس) تقديم الضر أنسب.
أما في سورة القلم استخدام صيغة همّاز لأن الكلام في التعامل مع الناس وكل سورة القلم تتكلم عن التعامل مع الناس. "وإنك لعلى خلق عظيم"، فهي تتناول السلوكيات ولا تذكر العاقبة إلا قليلا وهي التي وردت في قوله: "سَنَسمُه على الخرطوم" ولكنه لم يذكر شيئا آخر من عاقبة مرتكب هذا الفعل إنما ذكر صفاتهم فقط مثل (حلاف مهين هماز مشاء بنميم) وهذه الصفات لا تستوجب الطاعة ولم يأتي ذكر العاقبة في هذه السورة فهي كلها في التعامل. وجاء في السورة (إن كان ذا مال وبنين) ينبغي أن لا يُطاع ولو كان ذا مال وبنين فهو يمتنع بماله وبنيه والمال والبنون هما سبب الخضوع والإيضاح والإنقياد ولو كان صاحبهما ماكر لذا جاءت الآية (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ﴿١٠﴾ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ﴿١١﴾ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿١٢﴾ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴿١٣﴾ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴿١٤﴾). فالعربي صاحب عزة في عشيرته ببنيه ولكن المال والقوة هما سبب الخضوع والانقياد في الأفراد والشعوب مهما كانت حقيقة صاحب المال من أخلاق سوء وإثم واعتداء فإن لها القوة لما لها من مال وقوة وهذا مشاهد في واقعنا وهو سبب استعلاء الدول القوية صاحبة هذا المال وتلك القوة على الشعوب المستضعفة. فالملحوظ هنا أن سورة القلم لم تتطرق إلى نهايتهم بل اكتفت بالأمر بعدم طاعتهم، أما الهمزة فقد ذكرت نهايتهم بتفصيل.
في سورة الهمزة وصف تعالى بقوله (إنها عليهم مؤصدة* في عمد ممددة) وفي سورة البلد لم يعقّب على النار بشيء فما اللمسة البيانية في هذا؟
لو لاحظنا المذكورين في سورة الهمزة نلاحظ أنه تعالى قد توسّع في ذكر صفات المعذّب (ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده،...) وكما توسّع في الصفات توسّع أيضاً في العذاب (في عمد ممددة) أما في سورة البلد فلم يتوسع في ذكر صفات المعذبين وإنما قال (والذين كفروا) هذا والله أعلم.
لكيلا تأسوا ولا تحزنوا" اتضح أن الحزن أشد من الأسى معناه تحزنوا أشد من تأسوا. ننظر في السياق ونقدّر: في (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) هذا الكلام بعد واقعة أُحد وما حصل لهم من شدة ومشقة وهزيمة وجراح وما فاتهم من الغنائم كانت شديدة عليهم قال تعالى (فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ). الحُزُن في أحد على أمرين على ما فاتهم وعلى ما أصابهم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنائم ولا ما أصابهم من الجراح فالحزن على أمرين على ما فاتهم وعلى ما أصابهم. أما في الحديد (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) أمر واحد (ولا تفرحوا بما آتاكم) هذه نعمة تفرحوا بما آتاكم من النعم. في أُحُد أمران في الحزن فقطعاً في أحد الحزن أكثر لأن الحزن على أمرين ما فاتهم وما أصابهم أما في الحديد فالحزن على ما فاتهم فقط. بعد معرفة الفرق بين حزن وأسي نضع الحزن في آية آل عمران وتأسوا في آية الحديد وكل كلمة في مكانها البلاغي ولا يوجد ترادف في القرآن الكريم وإنما هو حتى عند اختيار لغة على لغة يكون مقصوداً، كل كلمة لها دلالة واختيارها له سبب مقصود فالتعبير القرآني تعبير فني مقصود، كل كلمة كل عبارة كل حرف مقصود.
*(لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) ما اللمسة البيانية في (فاتكم) و(آتاكم)؟


الصفحة التالية
Icon