آذوا موسى عليه السلام كثيراً حينئذ انتقم الله منهم لما فعلوه بموسى فقال (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) في آن واحد الذلة الهزائم في الحرب وفعلاً ما دخلوا حرباً مع العماليق إلا هزموا لماذا؟ رب العالمين سلط عليهم العماليق فسرقوا منهم التابوت الذي فيه سكينة من ربكم هذه معجزة طالوت (وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ (٢٤٨) البقرة) ظلوا يصابون بالذلة من الحروب والمسكنة بين الناس اليهودي دائماً يبدي نفسه أمام الآخرين أنه مسكين وأنه متواضع وأنه مظلوم إلى يوم القيامة وهم اليوم يحكمون العالم من مشرقه إلى مغربه ومع هذا يقولون نحن مساكين نحن مظلومين ونحن نرى ماذا يفعلون بالفلسطينيين. إذن هكذا هم ولذلك قال تعالى (ضربت عليهم الذلة والمسكنة). في زمن الرسول - ﷺ - ضربت الذلة أولاً فقط انهزموا في الحرب وكل المعارك التي خاضها اليهود مع المسلمين خسروا خسارة عظيمة الذلة فقط وبقوا أعزاء والنبي - ﷺ - أعطاهم في خيبر وغير ذلك ولكن وعدهم في المستقبل سوف يصابون بالمسكنة وفعلاً ما إن انتهى العهد الراشدي إلى يومنا هذا وهم في العالم كله يشعرون بالمسكنة إضافة إلى الذلة.
القرآن الكريم يستعمل أوتوا الكتاب في مقام الذم ويستعمل آتيناهم الكتاب في مقام المدح. قال تعالى (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٠١) البقرة) هذا ذم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) آل عمران) هذا ذم. بينما آتيناهم الكتاب تأتي مع المدح (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ (١٢١) البقرة) مدح،(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) القصص) مدح. هذا خط عام في القرآن على كثرة ما ورد من أوتوا الكتاب وآتيناهم الكتاب حيث قال أوتوا الكتاب فهي في مقام ذم وحيث قال آتيناهم الكتاب في مقام ثناء ومدح. القرآن الكريم له خصوصية خاصة في استخدام المفردات وإن لم تجري في سنن العربية. أوتوا في العربية لا تأتي في مقام الذم وإنما هذا خاص بالقرآن الكريم. عموماً رب العالمين يسند التفضل والخير لنفسه (آتيناهم الكتاب) لما كان فيه ثناء وخير نسب الإيتاء إلى نفسه، أوتوا فيها ذم فنسبه للمجهول (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا (٥) الجمعة) (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (١٤) الشورى)، أما قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (٣٢) فاطر) هذا مدح.
مر هذا السؤال معنا في سورة الحديد. هنالك قاعدة استنبطت مما ورد في القرآن الكريم: إذا كان السياق في عمل الإنسان قدم عمله (والله بما تعملون خبير) لو كان السياق في غير العمل أو كان في الأمور القلبية أو كان الكلام على الله سبحانه وتعالى قدّم صفة الله خبير (خبير بما تعملون). مثال: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) البقرة) هذا عمل، لما ذكر عمل الإنسان قدّم عمله (بما تعملون خبير)، (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) الحديد) هذا عمل، قتال وإنفاق ختمها (والله بما تعملون خبير) لما ذكر عمل الإنسان قدّم عمله. (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) البقرة) هذا عمل فقدّم (والله بما تعملون خبير). (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) التغابن) هذا عمل أيضاً. (
المكر سر في الإنسان عن طريقه يعني تضعه في مكان معين يفرح به وظيفة عالية تجعله غنياً بعد فقر، تعطيه رتبة هائلة مثلاً كان جندياً بسيطاً تجعله لواء، يعني تكرمه إكراماً زائداً ولكن هذا ليس لمصلحته وإنما تريد أن تقلب به الأرض، هذا المكر (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا). مثلاً قارون أعطاه الله مالاً (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (٧٦) القصص) ولما رب العاليمن أعطاه هذا المال لا ليسعده به وإنما أراد أن يمكر به (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ (٨١) القصص) هكذا شأن الذين يتعاونون مع الطغاة في كل التاريخ، هذا الطاغية سواء كان استعماراً أو محتلاً يأتي بعملاء يعطيهم فلوس ومناصب وقصور وأرصدة في الخارج يسعدهم سعادة وهمية وهم فرحون بذلك ولكن هو لا يعني هذا هو يمكر بهم وفي النهاية سوف يأخذ كل شيء منهم ثم يلقيهم في التهلكة، هذا هو المكر. ولهذا كل من يعطي عطاء الهدف منه توريط المعطَى وليس إسعاده وإنما إهلاكه بهذا العطاء يسمى مكراً.
الكيد هو دقة التدبير الخفي (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ (٧٦) يوسف) رب العالمين أراد أن يجعل يوسف ملك مصر ويوسف صغير عند يعقوب كيف؟! يقول القول الحكيم: لو يعلم العبد كيف يدبر الله الأمور لذاب فيه عشقاً. شيء عجب ولذلك كل واحد منا مر في حياته أشياء كان يكرهها (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ (٢١٦) البقرة) وإذا بها من تدبير الله يؤدي إلى سعادة متناهية. حينئذ هذا الكيد (إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ (٢٨) يوسف) حسن التدبير بخفاء وحينئذ (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦) الطارق).
فهم عندما دخلوا في الإسلام في زمانهم معناه نُقّوا من كل ما قبل ذلك فمن هنا قيل الحواريون وليست المسألة مسألة تقصير الثياب وإنما هؤلاء المنقّون لأنه لما آمنوا وعندنا في الحديث: " الإسلام يجُبُّ ما قبله" يعود الفرد إذا أسلم كيوم ولدته أمه أي صافياً نقياً أبيض الصفحة. هؤلاء هكذا كانوا بعد أن دخلوا في الإيمان. فأوحى إليهم أن آمنوا بي وبرسولي فقالوا (قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) قالوا آمنا ولم يقولوا آمنا بالله وعندنا سؤال في هذا. لو قالوا آمنا بالله معناه لم يؤمنوا برسوله لكن هنا قالوا آمنا لأن الدعوة كانت للإيمان بالله وبرسوله. فآمنا تعني آمنا بالله وبرسوله. (واشهد بأنا مسلمون) معناه جمعوا بين الأمرين: بين إيمان القلب والتطبيق، لكن هؤلاء الذين جمعول بين إيمان القلب والتطبيق في بعض الأحيان يُداخلهم شيء فيريدون أن يطمئنوا، يريدون أن يروا، يريدون أن يلمسوا. (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) أولاً لما قالوا: يا عيسى ابن مريم هذا دليل على إيمانهم بالمعجزة لأنه لم يُنسب إلى أبٍ ولم يقولوا يا رسولنا وإنما يا عيسى ابن مريم بمعنى نحن نعلم أنك إبن هذه المرأة بمعجزة فهذا تثبيت لإيمانهم وتذكّر للمعجزة أنه عيسى إبن مريم.
بالنسبة للرسول - ﷺ - نفى عنه عبادة ما يعبدون في الماضي والحال والاستقبال الثابتة والمتجددة بينما هم نفى عنهم (ولا أنتم عابدون ما أعبد) في الحالة الاسمية فبقاؤه - ﷺ - على عقيدته أقوى وأثبت وأدوم من بقائهم على عقيدتهم.
وجاءت الجملة الإسمية لأنه جاء إسمهم (قل يا أيها الكافرون) فجاء النفي بالجملة الإسمية لأنه جاء تعريفهم بالإسم (الكافرون).
* ما دلالة التكرار في سورة الكافرون؟(د. فاضل السامرائى)
في آخر الحديد (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)) الفضل بيد الله ونلاحظ في أول سورة المجادلة أنه تعالى سمع للمرأة التي تجادل في زوجها وتشتكي إلى الله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)) فالله سبحانه وتعالى الذي سمع للمرأة وحفظها من الضياع (وهي خولة بنت ثعلبة مع زوجها أوس بن الصامت) أليس هذا من فضل الله بهذه المرأة التي سمعها من فوق سبع سموات وحفظها من الضياع وحفظ المسلمين من أمثال هذه الحادثة؟ هذا أمر والأمر الآخر أنه ذكر في سورة الحديد (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا (٢٧)) وحالة الظهار هي من الأمور المبتدعة التي لم يكتبها الله تعالى (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢)) والظهار يعني يقول الرجل لزوجته أنت عليّ كظهر أمي فتحرُم عليه، أليس هذه من المبتدعات (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) والرهبانية التي ابتدعوها (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)؟! هذا ابتداع وهذا ابتداع، كلاهما بدعة.


الصفحة التالية
Icon