وقد مهد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة؛ فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيلات والضلالات؛ بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين، ثم درسها حكماء اليونان، فهذّبوا وأبدعوا، وميزوا علم الحكمة عن غيره، وتوخوا الحق ما استطاعوا، فأزالوا أوهاماً عظيمة، وأبقوا كثيراً.
وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية.
والأولى يونانية والثانية لإيطاليا اليونانية، وعنهما أخذ أفلاطون، واشتهر أصحابه بالإشراقيين(١) ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس(٢) وهذّب طريقته ووسّع العلوم، وسميت أتباعه بالمشَّائين، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معوّلة على أصوله إلى يومنا هذا. ٣/٦٣_٦٤
١٤٦_ ما يخطر في النفس إن كان مجردَ خاطرٍ وتردد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به؛ إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها.
وإن كان قد جاش في النفس عزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتّب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأن ممّا يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث: =من همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة+.

(١) _ هم أصحاب الفلسفة الإشراقية مأخوذة من إشراق النفس، واستعدادها.
وهي _عندهم_ تُنال بالحدس، والإلهام، وموضوعها العلوم الإلهية. (م)
(٢) _ هو أرسطو المقدوني الذي يعد أبرز تلامذة أفلاطون، وسُميت فلسفته بالمشائية؛ لأنه كان يعلِّم أتباعه وتلاميذه وهو يمشي؛ تعظيماً لشأن الحكمة. (م)

وذكرُ هَدْيِهِ، وأنه معصومٌ من أن يتطرقه الباطل، وتأييدهُ بما أُنْزِل إلى الرسل من قبل الإسلام.
وتَلقِّي المشركين له بالإعراض وصمِّ الآذان.
وإبطالُ مطاعنِ المشركين فيه، وتذكيرُهم بأن القرآنَ نزل بِلُغَتِهم؛ فلا عذر لهم أصلاً في عدم انتفاعهم بهديه.
وَزجْرُ المشركين، وتوبيخُهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض مع بيان ما في خلقها من الدلائل على تفرده بالإلهية.
وإنذارُهم بما حلَّ بالأمم المكذبةِ من عذاب الدنيا.
ووعيدُهم بعذاب الآخرة، وشهادةُ سمعهم وأبصارهم وأجسادهم عليهم.
وتحذيرُهم من القرناء المُزَيِّنين لهم الكُفْرَ من الشياطين والناس، وأنهم سيندمون يومَ القيامة على اتباعهم في الدنيا.
وقوبل ذلك بما للموحدين من الكرامة عند الله.
وأمرُ النبيِّ"بدفعهم بالتي هي أحسن، وبالصبر على جفوتهم، وأن يستعيذ بالله من الشيطان.
وذُكِرَتْ دلائلُ تفردِ الله بخلق المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر.
ودلائلُ إمكانِ البعث؛ وأنه واقع لا محالة، ولا يعلم وقته إلا الله _تعالى_.
وتثبيتُ النبي"والمؤمنين بتأييد الله إياهم بتنزل الملائكة بالوحي، وبالبشارة للمؤمنين.
وتخلل ذلك أمثالٌ مختلفةٌ في ابتداء خلق العوالم، وعِبَرٌ في تقلبات أهل الشرك، والتنويه بإيتاء الزكاة. ٢٤/٢٢٨_٢٢٩
٣_ والخوف: غم في النفس ينشأ عن ظن حصول مكروه شديد.
والحزَن: غم في النفس ينشأ عن وقوع مكروه بفوات نفع، أو حصول ضر. ٢٤/٢٨٥
٤_ [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)].
وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن، ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله _تعالى_ من دينه ومن خَلْقه. ٢٤/٢٨٩


الصفحة التالية
Icon