١١_ ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة؛ فإن الله لما بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشية في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها متكاثرة: وهي الأسر في الحروب، والتصيير في الديون، والتخطف في الغارات، وبيع الآباء والأمهات أبناءهم، والرهائن في الخوف، والتداين.
فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين؛ لأن العربي ما كان يتقي شيئاً من عواقب الحروب مثل الأسر، قال النابغة:

حذاراً على أن لا تُنال مقادتي ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
ثم داوى تلك الجراح البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمة: منها واجبة، ومنها مندوب إليها.
ومن الأسباب الواجبة كفارة القتل المذكورة هنا، وقد جعلت كفارة قتل الخطأ أمرين: أحدهما: تحرير رقبة مؤمنة، وقد جعل هذا التحرير بدلاً من تعطيل حق الله في ذات القتيل؛ فإن القتيل عبدٌ من عباد الله، ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه؛ فلم يَخْلُ القاتلُ من أن يكون فوت بقتله هذا الوصف.
وقد نبهت الشريعة بهذا على أن الحرية حياة، وأن العبودية موت؛ فمن تسبب في موت نفس حية كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبدة.
وسنزيد هذا بياناً عند قوله _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً] في سورة المائدة.
فإن تأويله أن الله أنقذهم من استعباد الفراعنة؛ فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم. ٥/١٥٨_١٥٩
١٢_ وثانيهما الدية، والدية مال يدفع لأهل القتيل خطأً؛ جبراً لمصيبة أهله فيه من حيوان، أو نقدين، أو نحوهما _كما سيأتي_.
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها؛ فلذلك لم يفصِّلها القرآن.
وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر ابن زيد.
نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة.
وعدة آيها تسع وعشرون.
وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان ابن الحكم قالا: =نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نُسْكنا؛ فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله _تعالى_: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً] فقال رسول الله: =لقد أنزلت عليَّ آية أحب إليَّ من الدنيا وما فيها+ وفي رواية: =من أولها إلى آخرها+. ٢٦/١٤١_١٤٢
٢_ أغراضُها: تَضَمَّنّتْ هذه السورةُ بشارةَ المؤمنين بِحُسْنِ عاقبة صُلْحِ الحديبية، وأنه نصرٌ وفتحٌ؛ فنزلت به السكينةُ في قلوب المسلمين، وأزال حُزْنَهم مِنْ صدِّهم عن الاعتمار بالبيت، وكان المسلمون عُدَّةً لا تغلب من قلة؛ فرأوا أنهم عادوا كالخائبين؛ فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرةَ السَّوءِ على المشركين والمنافقين.
والتنويهُ بكرامة النبي"عند ربه، ووعدُه بنصر متعاقب.
والثناءُ على المؤمنين الذين عَزَّروه وبايعوه، وأن اللهَ قَدَّمَ مَثَلَهُمْ في التوراة وفي الإنجيل.
ثم ذِكْرُ بيعةِ الحديبية، والتنويهِ بشأن مَنْ حضرها.
وَفضْحُ الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولَمْزُهُمْ بالجبن والطمع وسُوءِ الظن بالله وبالكذب على رسول الله" ومَنْعُهُمّ من المشاركة في غزوة خيبر، وإنباؤهم بأنهم سَيُدْعون إلى جهاد آخر، فإن استجابوا غُفِرَ لهم تَخَلُّفُهم عن الحديبية.
وَوَعْدُ النبيِّ"بفتحٍ آخرَ يَعقبه فتحٌ أعظمَ منه وبفتحِ مكةَ، وفيها ذكرٌ بفتحٍ مِنْ خيبر كما سيأتي في قوله _تعالى_ [فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ]. ٢٦/١٤٢_١٤٣
٣_ [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ].


الصفحة التالية
Icon