ولهذا جاء تفسيره حافلاً بدقائق البلاغة، ونكتها، وأفانينها؛ فلا تكاد تمر بآيةٍ إلا وتجده قد بيَّن أنها مشتملةٌ على فنٍّ أو أكثر من فنون البلاغة.
ولا تبالغ إذا قلت: إن هذا التفسير خيرُ تطبيقٍ عملي لقواعد البلاغة العربية على آيات القرآن الكريم.
ومن أجل ذلك كثر إيراده للمصطلحات البلاغية؛ فتراه كثيراً ما يقول: وهذا تذييل، أو تتميم، أو اعتراض، أو حذف، أو إيجاز، أو إيغال، أو استفهام نوعه كذا وكذا، وتراه يورد الكثير من مسائل التشبيه، والاستعارة بأنواعها، والبديع وأقسامه، وما جرى مجرى ذلك.
فإذا لم يكن القارئ على علمٍ بالبلاغة _ حصل عنده إشكالاتٌ كثيرة، والتبس عليه المقصود في مواطن عدة، وفاته علمٌ غزيرٌ، وخيرٌ كثيرٌ، وربما عدَّ العناية بالبلاغة، ومسائلها ضرباً من الترف، أو التملح.
ومن أجل ذلك هذه نبذةٌ موجزة في علم البلاغة تُبِيْن عن شيءٍ من فضل هذا العلم، وتاريخه، وتطوره، وأشهر الكتب فيه.
وبعد ذلك يكون الحديث عن علوم البلاغة الثلاثة _المعاني، والبيان، والبديع_ وعن بعض ما يدخل تحت هذه الأقسام من الموضوعات بشيء من الإيجاز.
قال أبو هلال العسكري × متحدثاً عن فضل هذا العلم ومسيس الحاجة إليه: =اعلم _علَّمك الله الخير، ودلَّك عليه، وقَيَّضه لك، وجعلك من أهله_ أنَّ أحق العلوم بالتعلم، وأولاها بالتحفظ _بعد المعرفة بالله جل ثناؤه_ علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله _تعالى_ الناطق بالحق، الهادي إلى سبيل الرشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحة النبوة، التي رفعت أعلام الحق، وأقامت منار الدين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حجب الشك بيقينها.
وأُدْمِجَ في ذلك التنويهُ بالقرآن، وجلالِ مُنَزِّلهِ، وما فيه من الهدى، وتعريضٌ بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك، والتنويهُ بشأن النبي".
وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم: الأولى: إثبات أنَّ القرآنَ منزلٌ من عند الله، والتنويهُ بالرسولِ المُنَزَّلِ عليه " ودلائلُ صِدْقه، ورِفْعَةُ شأنه عن أن تكونَ له حظوظُ الدنيا، وأنه على طريقة غيرِه من الرسل، ومن ذلك تلقى قومُه دعوتَه بالتكذيب.
الدعامة الثانية: إثباتُ البعثِ والجزاء، والإنذارُ بالجزاء في الآخرة، والتبشيرُ بالثوابِ فيها للصالحين، وإنذارُ المشركين بسوءِ حظهم يومئذ، وتكونُ لهم الندامةُ على تكذيبهم الرسولَ، وعلى إشراكهم، واتباعِ أئمة كفرهم.
الدعامة الثالثة: الاستدلالُ على وحدانية الله، وتفردُه بالخلق، وتنزيهُه عن أن يكون له ولدٌ أو شريكٌ، وإبطالُ إلهيةِ الأصنامِ، وإبطالُ ما زعموه من بُنُوَّةِ الملائكة لله _تعالى_.
وافتُتِحَتْ في آيات كلِّ دَعامةٍ من هذه الثلاث بجملة [تَبَارَكَ الَّذِي] الخ.
قال الطيبي: =مدارُ هذه السورة على كونه " مبعوثاً إلى الناس كافةً ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم؛ ولهذا جَعل براعةَ استهلالِها [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً]+.
وذَكَرَ بدائعَ مِنْ صنعه _تعالى_ جمعاً بين الاستدلال والتذكير.
وأَعْقَبَ ذلك بتثبيت الرسول"على دعوته، ومقاومته الكافرين.
وضَرَبَ الأمثالَ للحالين ببعثة الرسل السابقين، وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط.
والتوكلُ على الله، والثناءُ على المؤمنين به، ومدحُ خصالِهم ومزايا أخلاقِهم، والإشارةُ إلى عذاب قريب يَحُلُّ بالمكذبين. ١٨/٣١٤_٣١٥
٣_ [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (١)].


الصفحة التالية
Icon