إذا أنا بأملي قد خُيِّل إليَّ أنه تباعد أو انقضى؛ إذ قُدِّر أن تسند إلي خطة القضا(١)، فبقيت متلهفاً ولات حين مناص، وأضمرت تحقيق هاته الأمنية متى أجمل الله الخلاص، وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان، وأضرب المثل بأبى الوليد ابن رشد في كتاب البيان(٢).
ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه، إلى أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة، فإذا الله قد مَنَّ بالنُّقلة إلى خطة الفتيا(٣)، وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا؛ فتحول إلى الرجاء ذلك اليأس، وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة؛ فهو يقضي بها ويعلمها الناس(٤).
هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته، واستعنت بالله _تعالى_ واستخرته، وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط لا ينبغي أن يحول بيني وبين نسج هذا النمط إذا بذلت الوسع من الاجتهاد، وتوخيت طرق الصواب والسداد.
(٢) _ حيث ذكر أنه شرع فيه، ثم عاقه عنه تقليد خطة القضاء بقرطبة فعزم على الرجوع إليه إن أريح من القضاء، وأنه عرض عزمه على أمير المؤمنين علي بن يوسف ابن تاشفين، فأجابه لذلك وأعفاه من القضاء. ليعود إلى إكمال كتابه =البيان والتحصيل+ وهذا الكتاب هو شرح جليل على كتاب العتبية الذي جمع فيه العتبي سماع أصحاب مالك منه، وسماع أصحاب ابن القاسم منه.
(٣) _ في ٢٦ رجب ١٣٤١
(٤) _ أردت الإشارةَ إلى الحديث: =لا حسد إلا في اثنتين+ لأنه يتعين أن لا يكون المراد خصوص الجمع بين القضاء بها وتعليمها، بل يحصل المقصود ولو بأن يقضي بها مدة، ويعلمها الناس مدة أخرى.
وعن مقاتل وابن عباس أن قوله _تعالى_:[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ] إلى قوله:[سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ] نزل بالمدينة.
وهي السورة التاسعة والأربعون في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة النمل، وقبل سورة الإسراء؛ فكانت هذه الطواسين الثلاث متتابعة في النزول كما هو ترتيبها في المصحف، وهي متماثلة في افتتاح ثلاثتها بذكر موسى _عليه السلام_ ولعل ذلك الذي حمل كتاب المصحف على جعلها متلاحقة.
وهي ثمان وثمانون آية باتفاق العادين. ٢٠/٦١
٢_ اشتملت هذه السورة على التنويهِ بشأنِ القرآنِ، والتعريضِ بأن بلغاءَ المشركين عاجزون عن الإتيان بسورةٍ مثلِهِ، وعلى تفصيل ما أُجْمِلَ في سورة الشعراء من قول فرعون لموسى: [أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً] إلى قوله: [وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ] فَفَصَّلت سورةُ القصصِ كيف كانت تربيةُ موسى في آل فرعون.
وبُيِّن فيها سببُ زوالِ مُلْكِ فرعونَ.
وفيها تفصيلُ مَا أُجْمِلَ في سورة النمل من قوله:[إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً] فَفَصَّلت سورةُ القصصِ كيف سارَ موسى وأهلُه، وأين آنس النارَ، وَوَصْفَ المكان الذي نودي فيه بالوحي إلى أن ذَكَرَتْ دعوةَ موسى فرعونَ؛ فكانت هذه السورةُ أَوْعَبَ لأحوال نشأةِ موسى إلى وقت إبلاغه الدعوةَ، ثم أَجْمَلَتْ ما بعد ذلك؛ لأن تفصيلَه في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء.
والمقصودُ من التفصيل ما يتضمنه مِنْ زيادةِ المواعظِ والعبر.
وإذْ قد كان سَوْقُ تلك القصةِ إنما هو للعبرة والموعظة؛ ليعلم المشركون سُنَّةَ اللهِ في بعثة الرسل ومعاملته الأممَ المكذبةَ لرسلها، وتحدِّي المشركين بعلم النبي" بذلك، وهو أميٌّ لم يقرأْ ولم يكتبْ، ولا خالط أهل الكتاب _ ذَيَّلَ اللهُ ذلك بتنبيه المشركين إليه، وتحذيرَهم من سوء عاقبة الشرك، وأنذرهم إنذاراً بليغاً.