تلقى العلم كأبناء جيله، حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة ١٣١٠، وشرع ينهل من معينه في تعطُّشٍ وحبٍّ للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها من المعارف، والثقافات، بل والطب، وإتقان الفرنسية؛ فكان آية في ذلك كله.
له مؤلفات كثيرة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا، وردٌّ على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وأليس الصبح بقريب، وغيرها كثيرٌ كثيرٌ سواء أكان مطبوعاً أم مخطوطاً.
وكان ذا عقل جبار، وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع _ يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع الذي يريد الكتابة فيه قلت: ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب؛ لذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.
وكان ذا أسلوب محكم النسج، شديد الأسر، يذكر بأرباب البيان الأوائل.
وكان إذا كتب استجمع مواهبه العلمية، واللغوية، والأدبية، والاجتماعية، والتاريخية، والتربوية وغيرها لخدمة غرضه الذي يرمي إليه.
فلا غروَ _إذاً_ أن تجد في كتاباته عن أي موضوع: القصةَ، والحادثةَ التاريخيةَ، والنكتةَ البلاغيةَ، والمسألةَ النحويةَ، والأبياتِ الشعريةَ، والمقاصدَ الشرعيةَ، والمناقشةَ الحرةَ، والترجيحَ والموازنةَ.
كل ذلك بأدب عالٍ، وأسلوب راقٍ، ونَفَسٍ مستريض؛ فتشعر إذا قرأت له أن هذا البحث كتبه مجموعةٌ من المتخصصين في فنون شتى.
وعندي: أن فعل [لِيَقْضُوا] ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسخاً ولا ظفراً ولا شعراً، ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفاً، وأن موقع (ثم) في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي، فيقتضي أن المعطوف بـ:(ثم) أهم مما ذكر قبلها؛ فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة؛ فلا جرم أن التفث هو مناسك الحج، وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية: =فلما قضيت بعون الله التفث، واستبحت الطيب والرفث _ صادف موسم الخيف معمعان الصيف+. ١٧/٢٤٨_٢٤٩
٩_ الشعائر: جمع شعيرة: المعلم الواضح مشتقة من الشعور.
وشعائر الله: لَقَبٌ لمناسك الحج، جمع شعيرة بمعنى: مشعرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عَيَّنَهُ الله.
فمضمون جملة: [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ] الخ، أخص من مضمون جملة: [وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام، أو بمعنى مشعر بها؛ فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنها تُجْعَل؛ ليشعر بها الرائي.
وتقدم ذكرها في قوله _تعالى_: [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] في سورة البقرة، فكل ما أمر الله به بزيارته، أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي مما أشعر الله الناس وقرره، وشَهَره، وهي معالم الحج: الكعبة، والصفا والمروة، وعرفة، والمشعر الحرام، ونحوها من معالم الحج.
وتطلق الشعيرة _أيضاً_ على بدنة الهدي، قال _تعالى_: [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] لأنهم يجعلون فيها شعاراً، والشعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعناً حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نُذِرَتْ للهدي؛ فهي فعيلة بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس. ١٧/٢٥٦
١٠_ والقانع: المتصف بالقنوع، وهو التذلل، يقال: قَنَعَ من باب سأل، قُنُوعاً _ بضم القاف _ إذا سأل بتذلل.


الصفحة التالية
Icon