وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك؛ إذ هو حِفْظُ نظام العالم الإسلامي، وضَبْطُ تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورَعْيُ المصالح الكلية الإسلامية، وحِفْظُ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع. ١/٣٨
٢_ فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله _تعالى_ في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى، ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلاً وتفريعاً كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائدُ المُفَسِّر في ذلك أن يعرف _على الإجمال_ مقاصدَ القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات. ١/٤١_٤٢
١_ أولع كثير من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها؛ لبيان حكمها، أو لحكايتها، أو إنكارها، أو نحو ذلك، وأغربوا في ذلك وأكثروا؛ حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا.
بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها، ونجد لبعض الآي أسباباً ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل؛ فكان أمر أسباب نزول القرآن دائراً بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه، وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن؛ فذلك الذي دعاني إلى خوض هذا الغرض في مقدمات التفسير؛ لظهور شدة الحاجة إلى تمحيصه في أثناء التفسير، وللاستغناء عن إعادة الكلام عليه عند عروض تلك المسائل غير مدخر ما أراه في ذلك رأياً يجمع شتاتها.
١٠_ ومدين: قوم من ذرية مدين بن إبراهيم، وقد مضى الكلام عليهم عند قوله _تعالى_: [وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً] في سورة الأعراف.
وأرض مدين واقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر وكان موسى قد سلك إليها عند خروجه من بلد (رعمسيس) أو (منفيس) طريقاً غربية جنوبية؛ فسلك برية تمر به على أرض العمالقة وأرض الأدوميين، ثم بلاد النبط إلى أرض مدين، تلك مسافة ثمانمائة وخمسين ميلاً تقريباً.
وإذ قد كان موسى في سيره ذلك راجلاً فتلك المسافة تستدعي من المدة نحواً من خمسة وأربعين يوماً، وكان يبيت في البرية لا محالة، وكان رجلاً جلداً، وقد ألهمه الله سواء السبيل؛ فلم يضل في سيره. ٢٠/٩٨
١١_ واسم المرأتين (ليا) و(صفورة) وفي سفر الخروج: أن أباهما كاهن مدين، وسماه في ذلك السفر أول مرة رعويل، ثم أعاد الكلام عليه فسماه يثرون، ووصفه بحمي موسى؛ فالمسمى واحد.
وقال ابن العبري في تاريخه: يثرون بن رعويل له سبع بنات خرج للسقي منهما اثنتان؛ فيكون شعيب هو المسمى عند اليهود يثرون.
والتعبير عن النبي بالكاهن اصطلاح؛ لأن الكاهن يخبر عن الغيب، ولأنه يطلق على القائم بأمور الدين عند اليهود.
وللجزم بأنه شعيب الرسول جعل علماؤنا ما صدر منه في هذه القصة شرعاً سابقاً؛ ففرعوا عليه مسائل مبنية على أصل: أن شرع من قبلنا من الرسل الإلهيين شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ومنها مباشرة المرأة الأعمال والسعي في طرق المعيشة، ووجوب استحيائها، وولاية الأب في النكاح، وجعل العمل البدني مهراً، وجمع النكاح والإجارة في عقد واحد، ومشروعية الإجارة.
وقد استوفى الكلام عليها القرطبي، وفي أدلة الشريعة الإسلامية غُنْيَةٌ عن الاستنباط مما في هذه الآية إلا أن بعض هذه الأحكام لا يوجد دليله في القرآن؛ ففي هذه الآية دليل لها من الكتاب عند القائلين بأن شرع من قبلنا شرع لنا.