ولذلك كان الإيجاز عمودَ بلاغتهم؛ لاعتماد المتكلمين على أفهام السامعين، كما يقال: =لمحة دالة+ لأجل ذلك كثر في كلامهم: المجاز، والاستعارة، والتمثيل، والكناية، والتعريض، والاشتراك والتسامح في الاستعمال كالمبالغة، والاستطراد ومستتبعات التراكيب، والأمثال، والتلميح، والتمليح، واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية، واستعمال الاستفهام في التقرير أو الإنكار، ونحو ذلك. ١/٩٣
٢_ وملاك ذلك كله توفير المعاني، وأداء ما في نفس المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها؛ ليسهل اعتلاقها بالأذهان.
وإذ قد كان القرآن وحياً من العلام _ سبحانه _ وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله، وتحدى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه _كما سيأتي في المقدمة العاشرة_ فقد نُسِجَ نَظْمُه نسجاً بالغاً منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق، واللطائف لفظاً ومعنىً بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم.
وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن ابن عباس والواحدي وغير واحد: أنه لما تحارب الفرس والروم الحرب التي سنذكرها عند قوله _تعالى_: [غُلِبَتْ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الأَرْضِ] وتغلَّب الفرسُ على الروم كان المشركون من أهل مكة فرحين بغلب الفرس على الروم؛ لأن الفرس كانوا مشركين ولم يكونوا أهل كتاب؛ فكان حالهم أقرب إلى حال قريش، ولأن عرب الحجاز والعراق كانوا من أنصار الفرس، وكان عرب الشام من أنصار الروم؛ فأظهرت قريش التطاول على المسلمين بذلك؛ فأنزل الله هذه السورة؛ مقتاً لهم، وإبطالاً لتطاولهم بأن الله سينصر الروم على الفرس بعد سنين؛ فلذلك لما نزلت الآيات الأولى من هذه السورة خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة: [الم(١) غُلِبَتْ الرُّومُ(٢) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ] وراهن أبوبكر المشركين على ذلك كما سيأتي. ٢١/٣٩_٤٠
٣_ أول أغراض هذه السورة سبب نزولها على ما سَرَّ المشركين من تغلُّب الفرس على الروم؛ فَقَمَعَ اللهُ _تعالى_ تطاولَ المشركين به، وتحدَّاهم بأن العاقبةَ للروم في الغُلْب على الفرس بعد سنين قليلة.
ثم تَطَرَّق من ذلك إلى تجهيل المشركين بأنهم لا تغوص أفهامُهم في الاعتبار بالأحداث، ولا في أسباب نهوضِ وانحدار الأمم من الجانب الرباني، ومن ذلك إهمالُهم النظرَ في الحياة الثانية، ولم يتعظوا بهلاك الأمم السالفة المماثلة لهم في الإشراك بالله، وانْتَقَل من ذلك إلى ذكر البعث.
واسْتَدَلَّ لذلك ولوحدانيته _تعالى_ بدلائلَ من آياتِ الله في تكوين نظام العالم ونظامِ حياة الإنسان.
ثم حضَّ النبيَّ"والمسلمين على التمسك بهذا الدين، وأثنى عليه.


الصفحة التالية
Icon