وكنت أرى الباحثين ممن تقدمني يخلطون هذين الغرضين خلطاً، وربما أهملوا معظم الفن الثاني، وربما ألموا به إلماماً وخلطوه بقسم الإعجاز، وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير، ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولاً ونكتاً أغفلها من تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني، والرماني، وعبد القاهر، والخطابي، وعياض، والسكاكي، فكونوا منها بالمرصاد، وافْلُوا عنها كما يفلي عن النار الرماد.
وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير: هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغاً حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملاً على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسرة بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار؛ فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته، وما فاقت به آي القرآن في ذلك حسبما أشرنا إليه في المقدمة الثانية؛ لئلا يكون المفسر حين يعرض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسر. ١/١٠١_١٠٢
٣_ فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير؛ فَمِنْ مقُلٍّ مثل معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج، والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مكثر مثل الكشاف، ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العِلْقَ النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي. ١/١٠٢
وفي حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: =لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين+.
والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية، وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين بتقديم السين، وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع هو تصحيف.
وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام، ونزل حمص، ولقي أبا سفيان بن حرب في رهط من أهل مكة جاءوا تجاراً إلى الشام.
واعلم أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأبي بن خلف وتقرير النبي"إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب.
وأما الجمهور فهذا يرونه منسوخاً بما ورد من النهي عن القمار نهياً مطلقاً لم يقيد بغير أهل الحرب.
وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين أبي بكر وأبي بن خلف جرت على الإباحة الأصلية؛ إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ؛ فلا دليل فيها على إباحة المراهنة، وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريعٌ أُنُفٌ وليس من النسخ في شيء. ٢١/٤٥_٤٦
٧_ [لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ].
تقديم المجرور في قوله: [لِلَّهِ الأَمْرُ] لإبطال تطاول المشركين الذين بَهَجَهُم غلب الفرس على الروم؛ لأنهم عبدة أصنام مثلهم؛ لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نَصْرِ الأصنامِ عُبَّادَها؛ فبين لهم بطلان ذلك، وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفاً كما دل عليه التذييل بقوله: [يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ].
فيه أدب عظيم للمسلمين، لكي لا يعللوا الحوادث بغير أسبابها، وينتحلوا لها عللاً توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم.
وهذا المعنى كان النبي"يعلنه في خطبه؛ فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي"فقال في خطبته: =إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته+.