٨_ نرى من أعظم الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه وهما: مقصد الموعظة، ومقصد التشريع؛ فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه، وهو في هذا النوع يُشْبِهُ خُطَبَهم، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكاماً كثيرة في التشريع والآداب وغيرها، وقد قال في الكلام على بعضه: [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ] هذا من حيث ما لمعانيه من العموم، والإيماء إلى العلل، والمقاصد، وغيرها. ١/١١٥_١١٦
٩_ ومن أساليبه، ما أسميه بالتفنن: وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض، والتنظير، والتذييل، والإتيان بالمترادفات عند التكرير؛ تجنباً لثقل تكرير الكلم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية؛ فهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود؛ فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه.
ومن أبدع أمثلة ذلك قوله: [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]. ١/١١٦
١٢_ وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان؛ إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانوناً يسترد به قوة مجموعه العصبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده؛ فيعتريه شِبْهُ موتٍ يخدر إدراكه، ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية، ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقداراً كافياً لاسترجاع قوته؛ فيفيق من نومته، وتعود إليه حياته كاملة. ٢١/٧٦
١٣_ ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف: أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله؛ لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل، والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسانُ وتفكيرَه، ولم يلقن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته. ٢١/٩٠
١٤_ وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه: بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسداً وعقلاً، فَمَشْيُ الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية، وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع.
وجَزْمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود، ونفس الأمر فطرة عقلية، وإنكارُ السوفسطائيةِ ثبوتَ المحسوساتِ في نفسِ الأمرِ خلافُ الفطرةِ العقلية. ٢١/٩٠
١٥_ فَوَصْفُ الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جارٍ على مقتضى الفطرة العقلية.
وأما تشريعاته وتفاريعه فهي: إما أمور فطرية _أيضاً_ أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته.