فلنشرع الآن بذكر القواعد والضوابط على وجه الإيجاز الذي يحصل به المقصود، لأنه إذا انفتح للعبد الباب، وتمهدت بفهم القاعدة الأسباب، وتدرب منها بعدة أمثلة توضحها وتبين طريقها ومنهجها، لم يحتج إلى زيادة البسط وكثرة التفاصيل، ونسأله تعالى أن يمدنا بعونه ولطفه وتوفيقه، وأن يجعلنا هادين مهتدين بمنه وكرمه وإحسانه.
القاعدة الأولى
في كيفية تلقي التفسير
كل من سلك طريقاً وعمل عملاً، وأتاه من أبوابه وطرقه الموصلة إليه، فلا بد أن يفلح وينجح ويصل به إلى غايته، كما قال تعالى: ﴿ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: ١٨٩].
وكلما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعين البحث التام عن أمثل وأقوم الطرق الموصلة إليه، ولا ريب أن ما نحن فيه هو أهم الأمور وأجلها، بل هو أساسها وأصلها.
فاعلم أن هذا القرآن العظيم أنزله الله لهداية الخلق وإرشادهم، وأنه في كل وقت وزمان ومكان يرشد إلى أهدى الأمور وأقومها ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: ٩].
فعلى الناس أن يتلقوا معني كلام الله كما تلقاه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فإنهم كانوا إذا قرأوا عشر آيات، أو أقل أو أكثر، لم يتجاوزوها حتى يعرفوا ويحققوا ما دلت عليه من الإيمان والعلم والعمل، فينزلونها على الأحوال الواقعة يؤمنون بما احتوت عليه من العقائد والأخبار، وينقادون لأوامرها ونواهيها، ويطبقونها على جميع ما يشهدون من الحوادث والوقائع الموجودة بهم وبغيرهم، ويحاسبون أنفسهم: هل هم قائمون بها أو مخلون بحقوقها ومطلوبها؟ وكيف الطريق إلى الثبات على الأمور النافعة، وتدارك ما نقص منها؟ وكيف التخلص من الأمور الضارة؟ فيهتدون بعلومه، ويتخلقون بأخلاقه وآدابه، ويعلمون أنه خطاب من عالم الغيب والشهادة موجه إليهم، ومطالبون بمعرفة معانيه، والعمل بما يقتضيه.