ج ١، ص : ٧١
المعنى الجملي
روى عن ابن عباس أن هذه الآيات جاءت لتنزيه القرآن الكريم من ريب خاص اعترى اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقّرات كالذباب والعنكبوت لما نزل قوله تعالى :(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) وقوله :(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) إثر تنزيهه من مطلق الريب بما تحداهم به في الآيات السابقة، إذ طلب إليهم أن يأتوا بسورة مثله، وبه أبان لهم أن ذلك ليس بمطعن في القرآن، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثّل له، فالعظيم يمثّل له بالعظيم، والحقير يمثل له بالحقير، ألا ترى إلى الإنجيل، وقد مثّل غلّ الصدر بالنّخالة، ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير، وجاء في عباراتهم (أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأضعف من بعوضة).
وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء المحسوسة لتأنس بها النفس وتستنزل الوهم عن معارضة العقل، والحكيم علام الغيوب يعلم حكمة هذا، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك.
والناس إزاء هذا فريقان : مؤمنون يقولون إن اللّه خالق الأشياء حقيرها وعظيمها فالكل لديه سواء، وكافرون يستهزئون بالأمثال احتقارا لها، فحقت عليهم كلمة ربهم فأصبحوا من الخاسرين.


الصفحة التالية
Icon