ج ٢٣، ص : ٤
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا غير مرة : إن تقسيم الكتاب الكريم إلى الأجزاء الثلاثين لوحظ فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي، إذ كثيرا ما تكون بداءة الجزء في أثناء القصّة الواحدة كما هنا، فإنه بعد أن بين حال الناصح الشهيد ودخوله الجنة - أردف ذلك ذكر حال المتخلفين المخالفين له، ثم ذكر سنة اللّه في أمثالهم في العذاب الدنيوي ثم هم يردّون إلى ربهم فيعذبهم في الآخرة.
الإيضاح
(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتلوه لدعائه إياهم إلى اللّه ونصيحته لهم - من بعد مهلكه جندا من الملائكة، بل كان الأمر أيسر من ذلك.
وإجمال المعنى : إنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضبا منه تبارك وتعالى، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليّه، وما كاثرهم سبحانه بالجنود وإنزال الملائكة، بل كان أمرهم أهون من ذلك، إذ ليس من سنته أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير من السماء.
ثم بين ما كان من هلاكهم بقوله :
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة فإذا هم أموات لاحراك بهم، قد ذهبت منهم حرارة الحياة كما تذهب حرارة النار حين الخمود.
وفي هذا إيماء إلى أن الحىّ كشعلة النار، والميت كالرماد، وإلى هذا يشير لبيد :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع