ج ٢٥، ص : ٨٤
ولم يفعل ذلك بالمؤمنين فيوسع عليهم جميعا، ليكون سبب اجتماعهم على الإيمان العقيدة المنبعثة عن الاطمئنان النفسي، لأنه لو فعل ذلك لاجتمعوا عليه طلبا للدنيا، وهذا إيمان المنافقين، ومن ثم ضيّق الرزق على بعض المسلمين ووسع على بعض ليكون من يدخله، فإنما يدخله للدليل والبرهان وابتغاء رضوان اللّه ومثوبته.
الإيضاح
(وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي واذكر لقومك المكبّين على التقليد : كيف تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه حين رآهم عاكفين على عبادة الأصنام ؟ قال لهم إنى براء مما تعبدون إلا من عبادة اللّه الذي خلقنى وخلق الناس جميعا، وأنه سيهدينى إلى سبيل الرشاد، ويوفقنى إلى اتباع الحق، وقد جزم بذلك لثقته بربه، ولقوة يقينه.
(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل كلمة التوحيد وهى (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) كلمة باقية فى ذريته يقتدى به فيها من هداه اللّه منهم، لعل أهل مكة يرجعون عما هم عليه إلى دين أبيهم إبراهيم، فإنهم إذا ذكروا أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم ذلك الفخر، تبعوه فيما يدين به.
قال قتادة : لا يزال من عقبه من يعبد اللّه إلى يوم القيامة. وقال ابن العربي : إنما كانت لإبراهيم فى الأعقاب، موصولة بالأحقاب، بدعوتيه المجابتين : إحداهما قوله :
« إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » فقد قال إلا من ظلم منهم فلا عهد له. ثانيتهما قوله :« وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ».
(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي ولكنى متعت هؤلاء المشركين وآباءهم من قبل، ومددت أعمارهم، وأكثرت نعمهم، فشغلتهم النعم