ج ٣، ص : ١٢٤
(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي ويقتلون الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدل في كل شىء ويجعلونه روح الفضائل وقوامها.
ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلى مرتبة الأنبياء، وأثرهم في ذلك يلى أثرهم، لأن جميع الناس ينتفعون بهدي الأنبياء بقدر استعدادهم، والحكماء ينتفع بهم الخاصة المستعدون لفهم العلوم العالية، والنظريات العويصة.
انظر إلى الفارق بين دعوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد جبّت وثنية العرب في الزمن القليل، ودعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد وقد عجزت عن مثل ذلك أو ما يقار به، إذ لم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا القليل من طلاب الفلسفة.
وسر هذا أن دعوة النبي يؤيدها اللّه بروح من عنده، وتتعدد مظاهرها باعتبار المخاطبين
فقد جاء في الحديث « أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم »
وأشارت إلى ذلك الآية الكريمة :« ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » فالحكمة يدعى بها العقلاء وأرباب الفكر والنظر، والموعظة يدعى بها العامة وذوو الأحلام الضعيفة، والجدل بالتي هى أحسن لمن هم فى المرتبة الوسطى، لم يرتقوا إلى ذروة الحكماء، ولم ينزلوا إلى الدرجة السفلى، فلا ينقادون إلى الموعظة كسابقيهم، فلا بد لهم من الحسنى في الجدل، ومخاطبتهم على قدر عقولهم.
والحكماء ليس لديهم إلا طريق واحد في الدعوة إلى الحق والفضيلة، والمحور الذي تدور عليه هو حب العدل والإنصاف في الأفكار والأخلاق والآداب، سواء أ كان الحكيم الذي يدعو ينتسب إلى دين أم لا، إذ هو إنما يبنى دعوته على الإقناع من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه، مع الإخلاص والصدق.
فالإقدام على قتل مثل هؤلاء جناية على العقل، ومقت للعدل وكفى بذلك جرما وأعظم به خسرا.