ج ٣، ص : ٢١٢
وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبوا شيئا جعلوه للّه تعالى.
روى البخاري ومسلم عن أنس رضى اللّه عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (موضع) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها، فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة يا رسول اللّه : إن أحبّ أموالى إلىّ بيرحاء.
وإنها صدقة للّه تعالى أرجو برّها وذخرها عند اللّه تعالى، فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه تعالى، فقال عليه السلام : بخ بخ (كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشي ء) ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول اللّه، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه. وفي رواية لمسلم : فجعلها بين حسان ابن ثابت وأبيّ بن كعب.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال : لما نزلت هذه الآية جاء زيد ابن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هى صدقة، فقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة، فكأن زيدا وجد في نفسه (حزن) فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك منه قال : أما إن اللّه قد قبلها.
فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعرفة ما يختلج في القلوب، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين، فجعل ذلك في الأقربين ليثبّت قلوبهما ويكمل إيمانهما، ولا يجعل للشيطان سبيلا ينفذ به إلى ما بين الجوانح فيندمان إذا هما رأيا أموالهما فى أيدى الغرباء، إذ كثيرا ما يفارق المرء شيئا محبوبا لديه باختياره لعاطفة الدين، أو للجود به على غيره، ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يعاوده الحنين إليه، ومن ثمّ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يأمر عمّال الصدقة باتقاء كرائم الأموال، والبعد عنها حين جباية الصدقات.
وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضا، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر


الصفحة التالية
Icon