ج ٣٠، ص : ٤٤
كثر ماله، ونبه شأنه، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه، ولا يفكر فى منتهاه، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، وصوّره فى أحسن الصور، فى أطوار مختلفة، وأشكال متعددة، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان، ويوضع فى لحده، إلى أمد قدره اللّه فى علمه، ثم يبعثه من قبره، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا، لكنه ما أكفره بنعمة ربه، وما أبعده عن اتباع أوامره، واجتناب نواهيه!
الإيضاح
(قُتِلَ الْإِنْسانُ) هذا دعاء عليه بأشنع الدعوات على ما هو المعروف فى لسانهم.
يقولون إذا تعجبوا من إنسان : قاتله اللّه ما أحسنه، وأخزاه اللّه ما أظلمه! والمراد بيان قبح حاله، وأنه بلغ حدا من العتوّ والكبر لا يستحق معه أن يبقى حيا.
(ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفرانه للنعم التي يتقلب فيها، وأكثر ذهوله عن مسديها، وعمن غمره بها من حين إيجاده، إلى ساعة معاده! ثم شرع يفصل ما أجمله، ويبين ما أفاض عليه من النعم فى مراتب ثلاث :
المبدأ والوسط والمنتهى، وأشار إلى الأولى بقوله :
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ؟ ) أي من شىء حقير، فلا ينبغى له التجبر ولا التكبر.
وقد أجاب عن هذا الاستفهام بقوله :
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي خلقه من ماء مهين، وقدره أطوارا وأحوالا، طورا بعد طور وحالا بعد حال، وأتم خلقه بأعضاء تلائم حاجاته مدة بقائه، وأودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت لأجله، وجعل كل ذلك بمقدار محدود بحسب ما يقتضيه كمال نوعه.