ج ٨، ص : ١٤٠
وفى هذا إيماء إلى أن أصول الإيمان لا تقبل إلا بوحي من اللّه يؤيده البرهان كما قال « وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ».
كما أن فيه إرشادا إلى عظم شأن الدليل والبرهان فى الدين، حتى كأنّ من جاء بالبرهان على الشرك يصدق، وهذا من فرض المحال مبالغة فى فضل الاستدلال كما قال « أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ».
(٦) القول على اللّه بغير علم، وهو من أسس المحرمات التي حرمت على ألسنة الرسل جميعا، إذ هو منشأ تحريف الأديان المحرفة، وسبب الابتداع فى الدين الحق، وقد انتشر الابتداع بين أهله وتحكمت بينهم الأهواء واتبعوا سنن من قبلهم كما
جاء فى الحديث :« لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم قلنا يا رسول اللّه : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ » رواه الشيخان
ورأس البلية فى هذا الابتداع القول فى الدين بالرأى، فما من أحد يبتدع أو يتبع مبتدعا إلا استدل على بدعته بالرأى، وقد ظهرت مبادئ هذه البدع والأهواء فى القرون الأولى قرون العلم بالسنة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما زال أمرها يستفحل حتى وصلت إلى ما نراه الآن.
وما شرع من اجتهاد الرأى فى حديث معاذ وغيره فهو خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته، فقد أكمل اللّه دينه فلم يترك فيه نقصا يكمله غيره بظنه ورأيه بعد وفاة رسوله، وليس لقاض ولا مفت أن يسند رأيه الاجتهادى إلى اللّه فيقول هذا حكم اللّه وهذا دينه، بل يقول هذا مبلغ اجتهادي، فإن كان صوابا فمن توفيق اللّه وإلهامه، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان.
والخلاصة - إنه لا ينبغى لأحد أن يحرّم شيئا تحريما دينيا على عباد اللّه أو يوجب عليهم شيئا إلا بنص صريح عن اللّه ورسوله، ومن تهجم على ذلك فقد جعل نفسه شريكا للّه، ومن تبعه فى ذلك فقد جعله رباله، ومن ثم كان فقهاء الصحابة والتابعين يتحامون القول فى الدين بالرأى.