وأما الجر، فهو قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. أما قراءة النصب فلا إشكال فيها؛ لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه، وتقرير المعنى عليها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم؛ وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب؛ لأن الرأس يمسح بين المغسولات؛ ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة.
وأما على قراءة الجر، ففي الآية الكريمة إجمال؛ وهو أنها يُفهم منها الاكتفاء بمسح الرِّجْلين في الوضوء عن الغسل كالرأس، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، والتوعد بالنار لمن ترك ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم. "ويل للأعقاب من النار" ١.
اعلم أولًا أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لها حُكْم الآيتين كما هو معروف عند العلماء، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض مع أن إعرابها النصب أو الرفع.
وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود في اللحن الذي يتحمل لضرورة الشعر خاصة، وأنه غير مسموع في العطف، وأنه لم يجز إلا عند أَمْنِ اللبس؛ فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه؛ وممن صرح به الأخفش وأبو البقاء وغير واحد، ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره له مع ثبوته في كلام العرب وفي القرآن العظيم يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعًا كافيًا.
والتحقيق أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين... ".
ثم ذكر الشيخ الشنقيطي -رحمه الله

١ صحيح البخاري: كتاب الوضوء ج١ ص٤٩، ومسلم: كتاب الطهارة ج ١ ص٢١٣.


الصفحة التالية
Icon