تعالى: "والمشهد هنا عجيب أنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد مشهد الخيبة في الأرض. ولكنه يقف هذا الموقف ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها ولا يكاد يسيغه لقزازته ومرارته والتقذر والتكره بأديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت؛ ليستكمل عذابه ومن ورائه عذاب غليظ.
إنه مشهد عجيب، يرسم الجبال الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع وتشترك كلمة "غليظ" في تقطيع المشهد، تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين" إلى أن قال في الآية التالية:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ﴾ ١.
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها ولا الانتفاع به أصلا يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا.
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله مفككة كالهباء والرماد لا قوام لها ولا نظام.
فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل. فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية.
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في

١ سورة إبراهيم: ١٥-١٨.


الصفحة التالية
Icon