ج ١٠، ص : ٢٧٤
يرون للآخرة ظلا، أو خيالا، فى أنفسهم.. « بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ».
وفي تعدية المصدر « عم »، بمعنى أعمى ـ بحرف الجر « من » بدلا من « عن » الذي هو للفعل، إذ يقال : عمى عن الشيء : ولا يقال عمى منه، إلا إذا كان الشيء هو السبب في العمى، الذي جاء من جهته.. وهذا ـ واللّه أعلم ـ ما أريد هنا، وهو أن الآخرة، كانت سببا في عمى الضالين والمشركين..
وذلك أن أمر البعث، والحساب والجزاء، هو مضلة الضالين، وغواية الغاوين.
وليس الإيمان باللّه هو السبب في تردد المشركين وتوقفهم عن الإيمان.. وإنما كان ترددهم وتوقفهم عن الإيمان باللّه، لأن الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالبعث والحساب والجزاء.. وهذا هو الذي يتردد إزاءه المترددون، ويتوقف عنده المتوقفون.. وإنه ليسير غاية اليسر على المشركين أن يستبدلوا إلها بإله، وربا برب.. وليس من اليسير أبدا أن يقبلوا ربّا لا يقبلهم إلا إذا آمنوا بالبعث بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. فذلك هو الذي لا تقبله عقولهم ولا تتصوره مدركاتهم.. ولقد كان أكثر جدلهم واقعا على البعث بعد الموت، وفي هذا ما حكاه القرآن عن المشركين والمكذبين بيوم البعث :« وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ؟ » (٧ ـ ٨ سبأ) إنهم يعرفون اللّه، وإن كانت معرفة سقيمة معتمة، وإنهم ليقرون بوجوده، ويتهمون النبي بالافتراء على اللّه، ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعث الناس، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.
وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، يحتاج الوقوف عليه إلى شىء من النظر الخاشع بين يدى هذا الجلال المشرق من سماوات الحق..