ج ١٢، ص : ١٠٧٣
إنه سلطان، يملك دنيا عريضة.. ولهذه الدنيا إغراؤها، وشهواتها..
وإنه نبى كريم. وللنبوة خطرها، وجلالها، وسموّها..
والمطلوب منه هنا، هو أن يجمع بين السماء والأرض.. أن يلبس الملك والنبوة معا.. فلا يرى فى حال من أحواله إلا ملكا نبيّا، أو نبيّا ملكا..
إنه ملك من عند اللّه، ونبىّ من عند اللّه، يسوس الملك بالنبوة، ويؤيد النبوة بالملك!..
ولا شك أن هذا فضل عظيم، ولكنه ابتلاء عظيم أيضا، ولهذا كان هذا الإلفات السماوىّ لداود، أن يأخذ حذره، إذ يقول له الحق جل وعلا :« يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ».
ولهذا أيضا كان تقبل اللّه سبحانه لداود، وتجاوزه عن ذنبه، إذ كان إنما حمل أمرا عظيما، تغتفر له فيه الهنات، وتقال فيه العثرات! فما هى هفوة هذا النبىّ الكريم، وما هى عثرته ؟
إنها ـ واللّه أعلم ـ ملففة فى ستر من ألطاف اللّه ورحمته، فيما كان من تلك القضية التي عرضها عليه الخصمان :« خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ » إن القضية تمثل صراعا بين قوىّ وضعيف.. بين من يملك الكثير الكثير، ومن لا يملك إلا القليل القليل.. بين صاحب سلطان يعتز بسلطانه، ويمضى الأمور بكلمة تصدر من فمه، وبين من لا يملك الكلمة بقولها أمام هذا السلطان!..