ج ٢، ص : ٤٣٦
وفى قوله تعالى على لسان امرأة عمران :« قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى » ما يكشف عن استحيائها وخجلها من أن تقدم للّه أنثى تخدم فى بيته، وكأن اللّه ـ سبحانه ـ لم يجعلها أهلا لأن تجىء بالذكر الذي هو أهل لتلك الخدمة.
وقول اللّه تعالى :« وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ » ردّ على هذا الشعور الحزين الآسف الذي كان يعتمل فى نفسها، وعزاء لها من أن تتحسر أو تحزن أو تعتذر للّه، فاللّه سبحانه « أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ » وهو الذي قدّر هذا، وأراد الوليدة لأمر عظيم، ستكشف عنه الأيام، بعد قليل.. وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله :
« وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى » أي أن الذكر الذي كانت تتمناه امرأة عمران وترجوه، لا يتحقق به هذا الأمر العظيم، الذي جعل اللّه إظهاره على يد هذه الأنثى، التي ستلد مولود البشريّة البكر :« عيسى عليه السّلام » ! فهل لو ولدت امرأة عمران ذكرا أكان لهذا الذكر أن يلد « عيسى » على الأسلوب الذي ولد به ؟
ولهذا جاء أسلوب التشبيه على وجه عجيب :« وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى » وهذا ما جعل المفسرين يتأولون مختلف التأويلات له، مع أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من نظرة، حتى تنحلّ عقدة هذا التشبيه، فإذا هو فى أعلى درجات البيان والوضوح.. إنه ليس قائما على مطلق المفاضلة بين الذكر والأنثى، ولكنه قائم على مفاضلة بين الذكر الذي كانت ترجوه امرأة عمران والأنثى التي وضعتها..
فإذا كان ذلك كذلك فهل لأحد قول فى أن هذا الذكر ليس كهذه الأنثى ؟
محال! ليس الذكر كالأنثى لتحقيق هذا الأمر العظيم الذي أراده اللّه، واختص هذه الأنثى به. وهى أن تلد مولودا من غير أب، هو المسيح.
« وعمران » هذا الذي تحدّث الآية بأنه أبو هذه الأنثى وزوج أمّها « امْرَأَتُ عِمْرانَ » ليس المراد به ـ واللّه أعلم ـ أنه زوجها، وإنما هو رجل من آل « عمران » الذين اصطفاهم اللّه فيما اصطفى من عباده، كما قال تعالى فى


الصفحة التالية
Icon