ج ٦، ص : ٩٤٠
لا فى هذه القصور الشامخة، وما تكتظّ به من أثاث ورياش، وما يموج فيها من جوار وغلمان، وما تحفل به من موائد ومطاعم، وما يساق إليها من ذهب وفضة.. ولكن فى بيوت متواضعة، تسكنها نفوس عمرتها السكينة، وتعمرها قلوب عمرها الحق والعدل والخير..
أعرفت شيئا من سيرة عمر بن الخطاب ؟ وأعرفت كيف كان طعامه لقيمات جافة من خبز الشعير وإدامه قطرات من الزيت أو الخل، لا يجتمعان معا..
وهو خليفة المسلمين، ووارث ملك القياصرة، وعرش الأكاسرة ؟ وأ رأيت كيف كان لباسه من المرقع الخشن، وبين يديه ما شاء من دمقس وحرير، مما جلب من صنعة الشام، والعراق، ومصر، واليمن ؟ ثم أشهدت خليفة المسلمين وهو قائم فى الشمس يهنأ إبل الصدقة، ويعالج جر باها ؟
لا تنظر فى هذا إلى عظمة عمر، ولا إلى زهده، وعفته، ولا إلى خوفه من ربه وخشيته ليوم لقائه، وانظر إلى عمر، وإلى السعادة الغامرة التي تملأ جوانحه، وتفيض على الناس من حوله..
إن عمر وهو يردّ شربة الماء البارد فى يوم صائف، ويرفعها عن شفتيه حين وجد نفسه تهشّ لها، وترقص طربا لاستقبالها ـ إنه ليجد السعادة مضاعفة حين غلب هواه، وحطّم شهوته، وقهر سلطانها.. إنه الآن ملك غير مملوك، وسيد غير مسود، وقادر غير عاجز، ومتسلط غير متسلط عليه، وحاكم غير محكوم..
وشتان بين عمر لو شرب هذا الماء، وبين عمر هذا الذي أبى على نفسه أن تشربه! هذه لغة لا يعرف مدلول ألفاظها إلّا من عانى مثل هذه التجربة وعاشها،