ج ٩، ص : ١١١٧
الصورة كانت تتطلع كثير من النفوس إلى هيئتها التي تكون عليها، لو أنها أطلّت بوجهها، وكشفت عن حال أصحابها، كما كشفت الصورة السابقة عن المؤمنين، وعن حالهم الطيبة المسعدة.. فالمؤمنون باللّه ينظرون إلى من خلّفوهم وراءهم على طريق الكفر والضلال، ليروا ما صنع اللّه بهم.. وغير المؤمنين، ينظرون إلى مكانتهم بعد أن رأوا المؤمنين، وقد ورثوا جنات النعيم.
ولكن كان من رحمة اللّه بهؤلاء الضالين الغاوين، أن حجب عنهم صورتهم السيئة المنكرة، ولم يكشف لهم عن المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، إذا وقفوا حيث هم على موارد الضلال والغواية.
وبدلا من أن يكشف اللّه لهم عن حالهم السيئة، وينزلهم منازل الهون والبلاء ـ دعاهم إليه، ومنحهم فرصة أخرى، يراجعون فيها أنفسهم، ويتدبرون حالهم، ويرجعون إلى اللّه من قريب، ليكونوا فى المؤمنين المفلحين، فعرض عليهم سبحانه وتعالى شيئا من مظاهر قدرته، وعلمه، وحكمته.. يجدونها ـ لو عقلوا ـ فى أقرب شىء إليهم.. فى أنفسهم، وفى عجائب قدرة اللّه، وبالغ حكمته..
إذ أخرج من التراب هذا الإنسان، السميع البصير، العاقل، الناطق، الذي عمر هذه الأرض، وتسلّط على حيوانها ونباتها وجمادها..
ففى هذه النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه، وإلى أصل نشأته، وتطوره فى الحياة، وتنقله فى الخلق ـ فى هذه النظرة، يرى الإنسان أن يدا حكيمة قادرة، هى التي أوجدته، وأخرجته على هذه الصورة، التي لا وجه للشبه بينها وبين هذا التراب الهامد الذي ولدت منه.. فكيف لا يولى الإنسان وجهه إلى الذي فطره وصوّره، وأقامه على هذا العالم الأرضى خليفة للّه فيه ؟ وكيف لا يدين لخالقه ورازقه بالطاعة والولاء ؟ ثم كيف يعطى يديه، ويسلم زمامه لأحجار ينحتها، أو لحيوان يربيه، أو لإنسان هو مخلوق مثله ؟ ذلك ضلال مبين.