ج ٩، ص : ٨٧٧
إننا نتحدث منذ أخذنا فى هذا الحديث، عن الخير والشر، كأنهما حقيقتان واقعتان، متفق على ماهيتهما، متعارف على الحدود القائمة بينهما..
مع أن الواقع غير ذلك..
فمع اعتراف المعترفين بالخير والشرّ، فإن خلافا كبيرا قد وقع بينهم فى تحديد الصورة، التي يكون بها الخير خيرا والشرّ شرّا..
ما هى الضوابط التي تضبط معنى الخير ؟ والتي إن تحققت فى أمر من الأمور عرف أنه خير ؟ وإن تخلّف بعضها وتحقق بعضها عرفت نسبة الخير فيه ؟
إنه بغير هذه الضوابط ستتفرق بالناس السّبل، حيث تعدد المفاهيم للخير والشرّ. على حسب تعدد الناس، وحسب ما يرون، وما يقدّرون. فلا يلتقون على طريق واحد فيما يأخذون أو يدعون، ولا فيما يحمدون أو يكرهون، ولا فيما يثيبون أو يعاقبون.
ما الخير إذن ؟
يكاد يكون الخير أمرا بدهيا، لكثرة إلف الناس له، وإحساسهم به..
فهو لهذا لا يكاد يضبط أو يحصر داخل حدّ محدود.. إنه مشاع فى الناس، واقع فى إحساسهم.. كل يراه من الأفق الذي يعيش فيه.. فيبدو لبعض الناس فى صورة المتاع الجسدى من طعام وشراب، ولباس، وغير هذا مما هو من حظ الجسد، على حين يراه آخرون فى ألوان من الأدبيّات، التي تعلو بالروح، وتسمو بالوجدان.. وبين هذه الآفاق الصاعدة والآفاق النازلة، درجات لا تكاد تحصى، وتكاد تكون على تعداد الناس.. فردا فردا..
ولكن إذ قد اختلفت معابير الناس فى الخير ـ وهذا أمر طبيعى ـ لاختلاف رغباتهم، وتنوع مطالبهم، فليس معنى هذا ألا يكون هناك خير، وإنما هذا الاختلاف فى ذاته، دليل على وجوده! ولعل أول إحساس بالخير، جاء عن طريق إحساس مادىّ، يقع على الجسد من أمور تتصل بحاجات الإنسان الجسدية، التي تمسك عليه الحياة، وتدفع عنه أسباب الفناء فالشىء الذي كان يسدّ حاجة الإنسان البدائى، ويشبع جوعته ـ أيا كان هذا الشيء ـ هو خير وخير كثير..
من أجل هذا كانت تلك الموجودات من حيوان أو نبات أو جماد، معبودات للإنسان الأول، حيث ظهرت له، فى صورة نافعة أو ضارة، وذلك ليرجو خيرها، ويدفع شرها..
ومن هنا كان تعدد الآلهة التي عبدها الإنسان فى خطواته الأولى فى الحياة.. فعبد كل شىء، إذ كان يرى مصيره مرتبطا به، فى مجال النفع والضر على السواء..
ثم حين خطا الإنسان خطوات إلى الحياة، وتعرف على وجوه الأشياء، وأخضعها لسلطانه ـ ترك عبادتها شيئا فشيئا، ثم ما زال بها يدفعها عن مقام التأليه والتقديس حتى انتهى به الأمر إلى جمعها جميعا تحت دائرتين : دائرة تسع كل ما هو خير، وأخرى تجمع كلّ ما هو شر..
فالخير جميعه يصدر عن قوة عليا، كما أن الشرّ كله يصدر عن جهة عليا كذلك، تناظر قوة الخير، وتقابلها..
وهكذا انتهى الإنسان فى مرحلة متأخرة من حياته إلى عبادة الخير، والشر، ولم يستسغ أن يجمع بين الخير والشر فى دائرة واحدة، فيجعلهما صادرين عن قوة واحدة عليا.. لأنه فهم أن الخير لا يلتقى أبدا مع الشر، وأن الذي يصنع الخير، لا يصنع الشر!