واعلم أن كل قول مكرر مملول إلا القرآن العزيز، فإنه كلما كرر حلا وعلا واقتبس من فوائده وأنواره مالا يدخل تحت الحصر، وكيف يمل حديثه وهو أحسن الحديث قال تعالى ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) [ الزمر / ٢٣ ] وهو أحسن القصص قال تعالى ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) [ يوسف /٣ ] فلا شرف ولا عز إلا لأهل القرآن ؛ لأنه عز لا ذل معه وغنى لا فقر يتبعه، وأهله هم أهل التجارة الرابحة وهى لا تكسد عنده حتى يوفيهم أجورهم من الجنة قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [ فاطر / ٢٩ ] وهم أهل الله وخاصته، وهم أشراف هذه الأمة، وهم أهل الحلل والكرامة يوم القيامة وهم الملأ بحق، كما قال الإمام الشاطبى عنهم : أولئك أهل الله والصفوة الملا.
والصفوة : الخالص من كل شىء، والملأ مهموز أبدل همزه ألفا للوقف، وإنما سمى الملأ بذلك ؛ لأنهم أشراف الناس وعظماؤهم ولأنهم يملئون العين رهبة، وكأنه يقول إن أردت ناسا بحق فهم أهل القرآن، وانظر ـ أكرمك الله ـ كيف ارتقى بهم القرآن حتى سموا وعلوا فسادوا وقادوا، فهذا صنيع القرآن بأهله فكيف يكون صنيعه بمن غاص في أعماق بحار التفسير لاستخراج جواهر المعاني من صدف المباني التي أودعها الله تعالى في كتابه العزيز الذي هو منتهى الحكمة البالغة ولا يفنى ولا ينفد ولا تنقضي عجائبه، فقد حوى من المعاني الأنيقة والحكم الرشيقة ما بهر القلوب عجبا، وتأمل ـ أشرق الله قلبي وقلبك بأنوار اليقين وجعلني وإياك من أوليائه المتقين ـ فى قوله تعالى ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) [ لقمان /٢٧ ] كيف استغنى القرآن العظيم فى الآية الكريمة عن ذكر المداد بقوله ( يَمُدُّهُ ) فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة مملوءة مدادا أبدا صبا لا ينقطع، ونظيره قوله تعالى