ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مُولَعَةٌ بِذِكْرِ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْإِحْسَانِ لِلتَّمَدُّحِ وَالْفَخْرِ وَكَانَ ذَلِكَ مَطِيَّةَ الرِّيَاءِ، وَطَرِيقَ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ، لَا سِيَّمَا إِذَا آنَسَ الْمُصَّدِّقُ تَقْصِيرًا فِي شُكْرِهِ عَلَى صَدَقَتِهِ أَوِ احْتِقَارًا لَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَمْلِكُ حِينَئِذٍ نَفْسَهُ وَيَكُفُّهَا عَنِ الْمَنِّ أَوِ الْأَذَى كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كَانَ مِنَ الْهُدَى الْقَوِيمِ وَمُقْتَضَى الْبَلَاغَةِ أَنْ يُؤْتَى فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ ذَلِكَ، وَالْحَمْلِ عَلَى تَرْكِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَقُولُ : بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -
فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَنَّ تَرْكَ الْمَنِّ وَالْأَذَى شَرْطٌ لِحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا إِلَى قَوْلٍ وَعَمَلٍ آخَرَ يُكْرِمُ بِهِ الْفَقِيرَ، أَوْ تُؤَيَّدُ بِهِ
الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي الْغَايَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا. ثُمَّ أَقْبَلَ - تَعَالَى - عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَهَاهُمْ نَهْيًا صَرِيحًا أَنْ يُبْطِلُوا صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ هَاتَيْنِ الرَّذِيلَتَيْنِ مَا يَقْتَضِيهِ وَلُوعُ النَّاسِ بِهِمَا.