وفي هذا الدرس نجد الحديث عن تكليف البذل والإنفاق، ودستور الصدقة والتكافل. والإنفاق في سبيل الله هو صنو الجهاد الذي فرضه الله على الأمة المسلمة، وهو يكلفها النهوض بأمانة الدعوة إليه، وحماية المؤمنين به، ودفع الشر والفساد والطغيان، وتجريده من القوة التي يسطو بها على المؤمنين، ويفسد بها في الأرض، ويصد بها عن سبيل الله، ويحرم البشرية ذلك الخير العظيم الذي يحمله إليها نظام الإسلام، والذي يعد حرمانها منه جريمة فوق كل جريمة، واعتداء أشد من الاعتداء على الأرواح والأموال.
ولقد تكررت الدعوة إلى الإنفاق في السورة. فالآن يرسم السياق دستور الصدقة في تفصيل وإسهاب. يرسم هذا الدستور مظللاً بظلال حبيبة أليفة ؛ ويبين آدابها النفسية والاجتماعية. الآداب التي تحول الصدقة عملاً تهذيبياً لنفس معطيها ؛ وعملاً نافعاً مربحاً لآخذيها ؛ وتحوّل المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل، والتواد والتراحم ؛ وترفع البشرية إلى مستوى كريم : المعطي فيه والآخذ على السواء.
ومع أن التوجيهات التي وردت في هذا الدرس تعد دستوراً دائماً غير مقيد بزمن ولا بملابسات معينة، إلا أنه لا يفوتنا أن نلمح من ورائه أنه جاء تلبية لحالات واقعة كانت النصوص تواجهها في الجماعة المسلمة يومذاك - كما أنها يمكن أن تواجهها في أي مجتمع مسلم فيما بعد - وأنه كانت هناك نفوس شحيحة ضنينة بالمال تحتاج إلى هذه الإيقاعات القوية، والإيحاءات المؤثرة ؛ كما تحتاج إلى ضرب الأمثال، وتصوير الحقائق في مشاهد ناطقة كيما تبلغ إلى الأعماق!
كان هناك من يضن بالمال. فلا يعطيه إلا بالربا. وكان هناك من ينفقه كارهاً أو مرائياً. وكان هناك من يتبع النفقة بالمن والأذى وكان هناك من يقدم الرديء من ماله ويحتجز الجيد.