والمن عنصر كريه لئيم، وشعور خسيس واطٍ. فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء الكاذب، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس. فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء.. وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن.. فالمن - من ثم - يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ سواء. أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء ؛ ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له كسيراً لديه ؛ وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله.. وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام.. وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة، وملء البطن، وتلافي الحاجة.. كلا! إنما أراده تهذيباً وتزكية وتطهيراً لنفس المعطي ؛ واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير في الله وفي الإنسانية ؛ وتذكيراً له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها ﴿ في سبيل الله ﴾ في غير منع ولا من.
كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ، وتوثيقاً لصلته بأخيه في الله وفي الإنسانية ؛ وسداً لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها. والمن يذهب بهذا كله، ويحيل الإنفاق سماً وناراً. فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى آخر باليد أو باللسان. هو أذى في ذاته يمحق الإنفاق، ويمزق المجتمع، ويثير السخائم والأحقاد.
وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام!