بحث نفيس للشهيد سيد قطب فى التعريف بسورة آل عمران
قال رحمه الله :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة. هو روحها وباعثها. وهو قوامها وكيانها. وهو حارسها وراعيها. وهو بيانها وترجمانها. وهو دستورها ومنهجها. وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل، ومناهج الحركة، وزاد الطريق..ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقي ; ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ; ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض ; وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك. معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات.
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية ; ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا، نشأ عنه وجود، ذو خصائص في حياة "الإنسان" بصفة عامة، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيوية، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.