فصل
قال الفخر :
اعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب، وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول الله ﷺ كأنه قيل لهم : إما أن تنازعوه في معرفة الإله، أو في النبوّة، فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولداً وأن محمداً لا يثبت له ولداً فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، والحي القيوم يستحيل عقلاً أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوّة، فهذا أيضاً باطل، لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد ﷺ، وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوّة، فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جداً فلننظر ههنا إلى بحثين.
البحث الأول : ما يتعلق بالإلهيات فنقول : إنه تعالى حي قيوم، وكل من كان حياً قيوماً يمتنع أن يكون له ولد، وإنما قلنا : إنه حي قيوم، لأنه واجب الوجود لذاته، وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى :﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم﴾ وإذا كان الكل محدثاً مخلوقاً امتنع كون شيء منها ولداً له وإلها، كما قال :﴿إِن كُلُّ مَن فِى السموات والأرض إِلاَّ ءَاتِى الرحمن عَبْداً﴾ [ مريم : ٩٣ ] وأيضاً لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حياً قيوماً، وثبت أن عيسى ما كان حياً قيوماً لأنه ولد، وكان يأكل ويشرب ويحدث، والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه، فثبت أنه ما كان حياً قيوماً، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلها، فهذه الكلمة وهي قوله ﴿الحى القيوم﴾ جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث.