فأما المتقدمون فقال سقراط : سبب الجمال حب النفع، وقال أفلاطون : الجمل أمر إلهي أزلي موجود في عالم العقل غير قابل للتغير قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلما نزلت إلى الأجسام صارت مهما رأت شيئا على مثال ما عهدته في العوالم العقلية وهي عالم المثال مالت إليه لأنه مألوفها من قبل هبوطها. وذهب الطبائعيون : إلى أن الجمال شيء ينشأ عندنا الإحساس بالحواس. ورأيت في كتاب "جامع أسرار الطب" للحكيم عبد الملك ابن زهر القرطبي العشق الحسي إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذي تستحسنه وتستلذه، وذلك أن الروح النفساني الذي مسكنه الدماغ قريب من النور البصري الذي يحيط بالعين ومتصل بمؤخر الدماغ وهو الذكر فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسن انضم النوري البصري وارتعد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفساني فيقلبه قبولا حسنا ثم يودعه الذكر فيوجب ذلك المحبة. ويشترك أيضا بالروح الحيواني الذي مسكنه القلب لاتصاله بأفعاله في الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر.
والحق أن منشأ الشعور بالجمال قد يكون عن الملائم، وعن التأثر العصبي، وهو يرجع إلى الملائم أيضا كتأثر المحموم باللون الأحمر، وعن الإلف والعادة بكثرة الممارسة، وهو يرجع إلى الملائم كما قال ابن الرومي :

وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلك
وعن ترقب الخير والمنفعة وهو يرجع إلى الملائم، وعن اعتقاد الكمال والفضيلة وهو يرجع إلى المألوف الراجع إلى الممارسة بسبب ترقب الخير من صاحب الكمال والفضيلة.
ووراء ذلك كله شيء من الجمال ومن المحبة لا يمكن تعليله وهو استحسان الذوات الحسنة واستقباح الأشياء الموحشة فنرى الطفل الذي لا إلف له بشيء ينفر من الأشياء التي نراها وحشة.


الصفحة التالية
Icon