ولما كان المراد التعجيب من هذه المولودة بأنها من خوارق العادات عبرت عنها بما فقالت :﴿أعلم بما وضعت﴾ وعبرت بالاسم الأعظم موضع ضمير الخطاب إشارة إلى السؤال في أن يهبها من كماله ويرزقها من هيبته وجلاله، وفي قراءة إسكان التاء الذي هو إخبار من الله سبحانه وتعالى عنها - كما قال الحرالي - إلاحة معنى أن مريم عليها الصلاة والسلام وإن كان ظاهرها الأنوثة ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها بالرجال في الكمال، حتى كانت ممن كمل من النساء لما لا يصل إليه كثير من رجال عالمها، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكراً وحقيقته أنثى.
ولما كان مقصودها مع إمضاء نذرها بعد تحقق كونها أنثى التحسر على ما فاتها من الأجر في خدمة البيت المقدس بما يقابل فضل قوة الذكر على الأنثى وصلاحيته للخدمة في كل أحواله قالت :﴿وليس الذكر﴾ أي الذي هو معتاد للنذر وكنت أحب أن تهبه لي لأفوز بمثل أجره في هذا الفرض في قوته وسلامته من العوارض المانعة من المكث في المسجد ومخالطة القومة ﴿كالأنثى﴾ التي وضعتها، وهي داخلة في عموم النذر بحكم الإطلاق في الضعف وعارض الحيض ونحوه فلا ينقص يا رب أجري بسبب ذلك، ولو قالت : وليست الأنثى كالذكر، لفهم أن مرادها أن نذرها لم يشملها فلا حق للمسجد فيها من جهة الخدمة.
قال الحرالي : وفي إشعار هذا القول تفصل مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافاً لنذرها، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت، فجعلها الله سبحانه وتعالى لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها، فكانت مريم عليها السلام أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها - انتهى.


الصفحة التالية
Icon