إنهم يريدون أن يكون طعامهم كما ألفوا، وأن يروا هذا الطعام كأمر مادي من أمور الحياة ؛ لذلك تشككوا في رزق الغيب، وهو المن والسلوى، وقالوا :" من يدرينا أن المن قد لا يأتي، وأن السلوى قد لا تنزل علينا " فلم تكن لهم ثقة في رزق وُهب لهم من الغيب ؛ لأنهم تناولوا كل أمورهم بمادية صرفة. وما دامت كل أمورهم مادية فهم في حاجة إلى هزة عنيفة تهز أوصال ماديتهم هذه ؛ لتُخرجهم إلى معنى يؤمنون فيه بالغيب.
ونحن نعلم أن الفكر المادي لا يرى الحياة إلا أسبابا ومسببات، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع منهم ذلك الفكر المادي، لذلك جاء بعيسى عليه السلام على غير طريق الناموس الذي يأتي عليه البشر، فجعله من امرأة دون أب، حتى يزلزل قواعد المادية عند اليهود. لكن الفتنة جاءت في قومه، فقالوا ببنوته للإله، وسبحانه منزه عن أن يكون له ولد.
ولنا أن نسأل ما الشبهة التي جعلتهم يقولون بهذه البنوة ؟
قالوا : إن الأمومة موجودة والذكورة ممتنعة، والشبهة إنما جاءت من أن الله نفخ فيه الروح، فالله هو الأب.
نقول لهم : لو أن الأمر كذلك لوجب أن تفتنوا في آدم أولى من أن تفتنوا في عيسى ؛ لأن عيسى عليه السلام كان في خلقه أمومة، أما آدم فلا أمومة ولا أبوة، فتكون الفتنة في آدم عليه السلام أكبر، وإن قلتم :" إن الحق قال : إنه نفخ فيه من روحه "، فلكم أن تعرفوا قول الله في آدم عليه السلام :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ﴾
[الحجر : ٢٨-٢٩].


الصفحة التالية
Icon