وقد ذكر الله هنا أنّ في أهل الكتاب فريقين : فريقاً يؤدّي الأمانة تعففاً عن الخيانة وفريقاً لا يؤدّي الأمانة متعلّلين لإباحة الخيانة في دينهم، قيل : ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام، ومن الفريق الثاني فِنْحَاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب والمقصود من الآية ذمّ الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخَون قال :﴿ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل ﴾ فلذلك كان المقصود هو قوله :﴿ ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ﴾ إلخ ولذلك طُوِّل الكلام فيه.
وإنما قدّم عليه قوله :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار ﴾ إنصافاً لحقّ هذا الفريق، لأنّ الإنصاف مما اشتهر به الإسلام، وإذ كان في زعمهم أنّ دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم، فقد صار النعيُ عليهم، والتعبيرُ بهذا القول لازمَاً لجميعهم أمينهم وخائنهم، لأنّ الأمين حينئذ لا مزية له إلاّ في أنّه ترك حقاً يبيح له دينُه أخذه، فترفّع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات.
وتقديم المسند في قوله :﴿ ومن أهل الكتاب ﴾ في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما : ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه، وفي الثاني للتعجيب من أن يكون الخوْن خُلْقاً لمتبع كتاب من كتب الله، ثم يزيد التعجيبُ عند قوله :﴿ ذلك بأنهم قالوا ﴾ فيكسب المسند إليهما زيادة عجَب حالٍ.
وعُدّي ﴿ تأمنه ﴾ بالباء مع أنّ مثله يتعدّى بعلي كقوله :﴿ هل آمنكم عليه ﴾ [ يوسف : ٦٤ ]، لتضمينه معنى تُعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة، والأمانةَ بالمعاملة على الاستيمان، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذرّ أو عباسسٍ بن مِرداس :
أربٌّ يَبولُ الثعْلُبَان بِرَأسه