ولما كانوا في عدد يسير أشار إليه بجمع القلة فقال :﴿وأنتم أذلة﴾ أي فاذكروا ذلك واجعلوه نصب أعينكم لينفعكم، وكان الإتيان بأمر بدر بعد آية الفشل المختتمة بالحث على التوكل في الغاية من حسن النظم، وهو دليل أيضاً على منطوق قوله تعالى :﴿وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً﴾ [ آل عمران : ١٢٠ ] كما كان أمر أحد دليلاً على منطوقها ومفهومها معاً : دل على منطوقها بنصرهم أول النهار عند صبرهم، وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم عند فشلهم آخره - والله الموفق ؛ على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة أحد من السير وكتب الأخبار علمت أن الظفر فيها ما كان إلا للنبي ﷺ كما سيأتي الخبر به في قوله تعالى :﴿ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه﴾ [ آل عمران : ٥٢ ]، فإن الصحابة رضي الله عنهم هزموهم - كما مضى - في أول النهار حتى لم يبق في عسكرهم أحد ولا بقي عند نسائهم حامٍ، فلما خالف الرماة أمره ﷺ وأقبلوا على الغنيمة أراد الله تأديبهم وتعريفهم أن نصرته لنبيه ﷺ غير محتاجة في الحقيقة إليهم حين انهزموا حتى لم يبق مع النبي ﷺ منهم غير نفر يسير ما يبلغون الخمسين، والكفار ثلاثة آلاف وخيلهم مائتان، فاستمر عليه الصلاة والسلام في نحورهم يحاولهم ويصاولهم، يرامونه مرة ويطاعنون أخرى، ويجتمعون عليه كرة ويفترقون عنه أخرى، والله تعالى يمنعه منهم بأيده ويحفظه بقوته حتى تدلت الشمس للغروب، وقتل بيده ﷺ أُبي بن خلف مبارزة، تصديقاً لما كان أوعده به قبل الهجرة، وخالطوه غير مرة ولم يمكنهم الله منه ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه، ثم ردهم خائبين بعد أن تراجع إليه من أصحابه في أثناء النهار، ولم يرجع ﷺ من أحد إلا بعد


الصفحة التالية
Icon