ولمَّا ذكر الجنة وصفها بسعة العرض، وفيه تنبيه على طولها لأن الطول في مقابلة العَرْض، وحين ذكر المغفرة لم يذكر الطول والعرض، فقومٌ قالوا : المغفرة من صفات الذات وهي بمعنى الرحمة فعلى هذا فمغفرته حُكْمُه بالتجاوز عن العبد وهو كلامه، وصفة الذات تتقدس عن الطول والعرض.
ومن قال : مغفرته من صفات فِعْلِه قال لكثرة الذنوب لم يصف الغفران بالنهاية، إشارةً إلى استغراقه جميع الذنوب.
قوله جلّ ذكره :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾.
لا يدَّخِرُونَ عن الله شيئاً، ويؤثِرونه على جميع الأشياء، ينفقون أبدانهم على الطاعات وفنون الأوراد والاجتهاد، وأموالهم في إفشاء الخيرات وابتغاء القربات بوجوه الصدقات، وقلوبهم في الطلب ثم دوام المراعاة، وأرواحهم على صفاء المحبَّات والوفاء على عموم الحالات، وينفقون أسرارهم على المشاهدات في جميع الأوقات ؛ ينتظرون إشارات المطالبات، متشمرين للبدار إلى دقيق المطالعات.
قوله :﴿ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ ﴾ : يتجاوزون عن الخَلْق لملاحظاتهم إياهم بعين النسبة، وأقوام يَحْلُمون على الخلق علماً بأن ذلك بسبب جُرْمِهم فيشهدونهم بعين التسلط، وآخرون يكظمون الغيظ تحققاً بأن الحق سبحانه يعلم ما يقاسون فيهون عليهم التحمل، وآخرون فنوا عن أحكام البشرية فوجدوا صافِيَ الدرجات في الذُّلِّ لأن نفوسهم ساقطة فانية، وآخرون لم يشهدوا ذرة من الأغيار في الإنشاء والإجراء ؛ فعلموا أنَّ المنشئ الله ؛ فزالت خصوماتهم ومنازعاتهم مع غير الله لأنهم لمَّا أفردوه بالإبداع انقادوا لحكمه ؛ فلم يروا معه وجهاً غير التسليم لحكمه، فأكرمهم الحق سبحانه بِبَرْدِ الرضاء، فقاموا له بشرط الموافقة.
قوله :﴿ والعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ فرضاً رأوه على أنفسهم لا فضلاً منهم على الناس، قال قائلهم :
رُبَّ رام لي بأحجار الأذى... لم أجِدْ بُدَّاً من العطف عليه
﴿ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.. هذا في معاملة الحق، وأما في معاملة الخلق فالإحسان أن تَدَعَ جميع حقِّك بالكلية كم كان على من كان، وتقبل (... ) منه ولا تقلده في ذلك مِنَّة. أ هـ ﴿لطائف الإشارات حـ ١ صـ ٢٧٧ ـ ٢٧٨﴾


الصفحة التالية
Icon