بحث نفيس للعلامة الإمام فخر الدين الرازى
قال عليه الرحمة :
اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فإما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا، فإن كان المراد منه هو الحقيقة، فإما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو المراد أنهم أحياء في الحال، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد، فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية.
الاحتمال الأول : أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، قد ذهب إليه جماعة من متكلمي المعتزلة، منهم أبو القاسم الكعبي قال : وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى، كانوا يقولون : أصحاب محمد ﷺ يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون إلى خير، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد، فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل إليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة.
واعلم أن هذا القول عندنا باطل، ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : أن قوله :﴿بَلْ أَحْيَاء﴾ ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر.
الحجة الثانية : إنه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والإحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فإنه تعالى قال :﴿أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ [ نوح : ٢٥ ] والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة، وأيضا قال تعالى :﴿النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ [ غافر : ٤٦ ] واذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الإحسان والاثابة كان ذلك أولى.