وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ أَضَرُّ عَلَى الدِّينِ وَأَبْعَثُ عَلَى إِضَاعَةِ الْكِتَابِ، وَنَبْذِهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَاشْتِرَاءِ ثَمَنٍ قَلِيلٍ بِهِ مِنْ جَعْلِ أَرْزَاقِ الْعُلَمَاءِ وَرُتَبِهِمْ فِي أَيْدِي الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاءُ الدِّينِ مُسْتَقِلِّينَ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ الْحُكَّامِ - لَاسِيَّمَا الْمُسْتَبِدِّينَ مِنْهُمْ - وَإِنَّنِي لَا أَعْقِلُ مَعْنًى لِجَعْلِ الرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَعَايِشِ الْعُلَمَاءِ فِي أَيْدِي السَّلَاطِينِ، وَالْأُمَرَاءِ إِلَّا جَعْلَ هَذِهِ السَّلَاسِلَ الذَّهَبِيَّةَ أَغْلَالًا فِي أَعْنَاقِهِمْ يَقُودُونَهُمْ بِهَا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا مِنْ غِشِّ الْعَامَّةِ بِاسْمِ الدِّينِ، وَجَعْلِهَا مُسْتَعْبَدَةً لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَوْ عَقَلَتِ الْعَامَّةُ لَمَا وَثَقَتْ بِقَوْلٍ، وَلَا فَتْوًى مِنْ عَالِمٍ رَسْمِيٍّ مُطَوَّقٍ بِتِلْكَ السَّلَاسِلِ، وَقَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ بِالرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنْ صَارَتْ تُوَجَّهُ عَلَى الْأَطْفَالِ بَلِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الرِّجَالِ حَتَّى قَالَ فِيهَا أَحَدُ عُلَمَاءِ طَرَابُلْسِ الشَّامِ مِنْ قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ فِي سُوءِ حَالِ الدَّوْلَةِ :

زَمَنٌ رَأَيْتُ بِهِ الْعَجَائِبْ وَذُهِلْتُ فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبْ
زَمَنٌ بِهِ الْوَهْمُ السَّخِي فُ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ غَالِبْ
أَفَلَا تَرَاهُمْ جَانَبُوا كَسْبَ الْمَعَارِفِ وَالْمَآدِبْ
وَرَضُوا بِأَوْرَاقٍ تُخَطُّ... خُطُوطُهَا مِثْلُ الْعَقَارِبْ
يَشْهَدْنَ زُورًا أَنَّ مَنْ هِيَ بِاسْمِهِ نُورُ الْغَيَاهِبْ
عَلَّامَةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَلَّاغُ دَوْلَتِهِ الْمَآرِب


الصفحة التالية
Icon