ولما كان تعالى قد جعل هذه الأمة وسطاً يقبلون على غيرهم ولا يقبل غيرهم عليهم قال :﴿منكم﴾ أي من عدول المسلمين بأنهن فعلنها ﴿فإن شهدوا﴾ أي بذلك ﴿فأمسكوهن﴾ أي فاحبسوهن ﴿في البيوت﴾ أي وامنعوهن من الخروج، فإن ذلك أصون لهن، وليستمر هذا المنع ﴿حتى يتوفاهن الموت﴾ أي يأتيهن وهن وافيات الأعراض ﴿أو يجعل الله﴾ المحيط علمه وحكمته ﴿لهن سبيلاً﴾ أي للخروج قبل الموت بتبين الحد أو بالنكاح، وإن لم يشهد الأربعة لم يفعل بهن ذلك وإن تحقق الفعل. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٢٢٥ ـ ٢٢٦﴾
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة الأمر بالإحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالجميل، وما يتصل بهذا الباب، ضم إلى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، فإن ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن، وأيضا ففيه فائدة أخرى : وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال بالإحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن، فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك، وأيضا فيه فائدة ثالثة، وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم، وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة، وأن مدار هذا الشرع الإنصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط، فقال :﴿واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ﴾. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٩ صـ ١٨٦﴾
وقال أبو حيان :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن، وقد كن لا يورثن في الجاهلية، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن، إذ هو نظر في أمر آخرتهن، ولئلا يتوهم أنّ من الإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد.
ولأنه تعالى لمّا ذكر حدوده وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج، وإباحة ما أباح من نكاح أربع لمن أباح ذلك، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني، وأفردهن بالذكر أولاً، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال، ثم ذكرهن ثانياً مع الرجال الزانين في قوله :﴿ واللذان يأتيانها منكم ﴾ فصار ذكر النساء الزواني مرّتين : مرة بالإفراد، ومرّة بالشمول. أ هـ ﴿البحر المحيط حـ ٣ صـ ٢٠٤﴾


الصفحة التالية
Icon