وبعد ذلك ما الحكمة في أنه - سبحانه - يرجع بنا مرة ثانية لليهود ؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر، فيوضح لنا : أن هناك ناساً ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه، فإياكم أن تكونوا كذلك. واعلموا أن هناك أناساً عندهم نصيب من الكتاب أيضاً، ويعلمون مثلكم تماماً، إنما اشتروا الضلالة، إذن فهو شَرَح لنا ؛ إنّه الواقع الملموس ولا يأتينا - سبحانه - بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول : يحدث أو لا يحدث، إنّه يأتيك بأحداث من واقع الكون، وينبهنا : إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾ والتحريف : أنك تأتي باللفظ الذي يحتمل معنيين : معنى خير، ومعنى شرّ، ولكنك تريد منه الشرّ، مثل الذي يقول :" السام عليكم " - والعياذ بالله - " هي في ظاهرها أنه يقول : السلام عليكم، لكنه يقول : السام. يعني " الموت "، إذن ففي اللفظ ما يُلحظ مَلحظً الخير، ولكن العدو يميله إلى الشرّ.
ومثل هذا ما قالوه للنبي :" قالوا راعنا " وهي من المراعاة، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر : اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق على الكلمة التي تحتمل التوجهين ؛ لأن المتكلم، قد يريد بها خيراً وقد يريد بها شرّاً، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا.
والمثال على ذلك : الرجل الذي ذهب لخياط ليخيط له قَباء - وكان الخياط كريم العين - أي له عين واحدة - فلم يُعجب الرجُل بِخياطة القَباء فقال : والله ما دمتُ أفتضح بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام الناس فلا بد أن أقول فيه شعراً يفضحه في الناس، فقال : خاط لي عمرو قَباء ليت عينيه سواء