فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين، لأنّ العربي ما كان يتقيّ شيئاً من عواقب الحروب مثل الأسر، قال النابغة :
حذاراً على أن لا تُنال مَقادتي...
ولا نِسْوَتهي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا
ثم داوَى تلك الجراحَ البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة : منها واجبة، ومنها مندوب إليها.
ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا.
وقد جُعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين : أحدهما تحرير رقبة مؤمنة، وقد جعل هذا التحرير بَدلاً من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه، فلم يَخْل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف، وقد نَبهتْ الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة، وأنّ العبودية موت ؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبَدة.
وسنزيد هذا بياناً عند قوله تعالى :﴿ وإذ قال مُوسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً ﴾ في سورة المائدة ( ٢٠ )، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم.
وثانيهما الدية.
والديّةُ مال يدفع لأهل القتيل خطأ، جبراً لمصيبة أهله فِيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما، كما سيأتي.
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن.
وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة، فكانت عوضاً عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها.
قال الحَماسي :
فلَوْ أنّ حَيّا يقبل المال فدية...
لَسُقْنَا لهم سَيْباً من المال مُفْعَما
ولكن أبى قومٌ أصيب أخُوهُمُ...
رِضَى العارِ فاخْتاروا على اللبن الدّما
وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه.
قال زهير :


الصفحة التالية
Icon