لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعا وقدرا ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاثة بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديا مخالفا للحكمة ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ولا تؤخرها عنه فتفوتها وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض وتعدي الحق : كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد وتعجيلها عن وقتها : كحصاده قبل إدراكه وكماله وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس : إخلال بالحكمة وتعدي الحد المحتاج إليه : خروج عنها أيضا وتعجيل ذلك قبل وقته : إخلال بها وتأخيره عن وقته : إخلال بها فالحكمة إذا : فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي والله تعالى أورث الحكمة آدم وبنيه فالرجل الكامل : من له إرث كامل من أبيه ونصف الرجل كالمرأة له نصف ميراث والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى وأكمل الخلق في هذا : الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأكملهم أولو العزم وأكملهم محمد ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى عليه وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة كما قال تعالى :﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [ النساء : ١١٣ ] وقال تعالى :﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [ البقرة : ١٥١ ] فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة وكل خلل في الوجود وفي العبد فسببه : الإخلال بها فأكمل الناس : أوفرهم منها نصيبا وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال : أقلهم منها ميراثا ولها ثلاثة أركان : العلم والحلم والأناة وآفاتها وأضدادها : الجهل والطيش والعجلة
فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول. والله أعلم. أ هـ ﴿مدارج السالكين حـ ٢ صـ ٤٨٧ ـ ٤٨٠﴾