وقال ابن عاشور :
والاستثناء في قوله :﴿ إلاّ من أمر بصدقة ﴾ على تقدير مضاف، أي : إلاّ نجوى من أمر، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين، وهو مستثنى من ﴿ كثير ﴾، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم.
أمّا القسم الذي أخرجَته الصفة، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع، وليس فيها ضرر، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة، أو نكاح أو نحو ذلك.
وأمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور : الصدقة، والمعروف، والإصلاح بين الناس.
وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء، فبَقي ما عدا ذلك من نجواهم، وهو الكثير، موصوفاً بأن لا خير فيه وبذلك يتّضح أنّ الاستثناء متّصل، وأنْ لا داعي إلى جعله منقطعاً.
والمقصد من ذلك كلّه الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة، ولو تناجى فيها مَن غالب أمره قصد الشرّ. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٤ صـ ٢٥٣﴾
فصل
قال القرطبى :
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾
أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير، وذكروه للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
والنَّجْوَى : السر بين الاثنين، تقول : ناجيت فلاناً مناجاة ونِجاء وهم ينْتَجون ويتناجوْن.
ونَجَوْت فلاناً أنجوه نجوا، أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي خلصته وأفردته، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عمّا حوله، قال الشاعر :
فَمَنْ بِنَجْوَتِهِ كمن بِعَقوتِهِ...
والمُسْتَكِنّ كمن يَمْشِي بِقِرْواحِ