وقال علماؤنا : هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت، وأما إذا تفاوتت، فلا تُمكَّن الغوغاءُ من أن تستطيل على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرّد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب ؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار.
ووجه آخر وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة! فإن العمّ صِنْوُ الأب، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والرّدع مبالغة في تأديبه، لا أنه موصوف بتلك الأُمور ؛ ثم انضاف إلى هذا أنهم في محاجّة وِلاية دينية ؛ فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز، وأن مخالفته فيها تؤدّي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأُمور ؛ فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه ؛ ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه ؛ أشار إلى هذا المازَرِي والقاضي عياض وغيرهما.
الثالثة : فأمّا من قرأ "ظَلَمَ" بالفتح في الظاء واللام وهي قراءة زيد بن أسلم، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظِيّ، وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب فالمعنى : إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول ؛ في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والردّ عليه ؛ المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق : ألستَ نافقتَ؟ إلا من ظَلَم، أي أقام على النفاق ؛ ودل على هذا قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ ﴾ [ النساء : ١٤٦ البقرة : ١٦٠ ].
قال ابن زيد : وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدّرك الأسفل من النار كان ذلك جهراً بسوء من القول، ثم قال لهم بعد ذلك :﴿ مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٧ ] على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان.


الصفحة التالية
Icon